الخميس، 31 أكتوبر 2013

مسألة حياة لنوفل عزارة: حياة وصخب وأضواء على مسرح الموت


«في دفينة موزار.. ما تبّعو كان كلبو»، هكذا تحدث أحد ممثلي مسرحية “مسألة حياة” ليؤكد أنّ الواحد منا قد يموت في حياته مئات المرّات.. قد يموت غبنا أو حزنا أو ظلما.. وقد تموت مشاعره وتفنى أحلامه وتنطفئ مهجته، وقد يدخل في خريف الحياة مبكرا سواء لسبب أو لآخر.. وقد بدا لنا أنّها التيمة الاساسية التي تطرقت لها مسرحة «مسألة حياة» التي عرضت الاسبوع الفارط بفضاء التياترو والتي صاغ نصها المسرحي توفيق الجبالي وأخرجها نوفل عزارة بمشاركة مجموعة من الممثلين من خريجي «ستوديو التياترو»..
ومن خلال شخصيات مختلفة خذلتها الحياة، سعت مسرحية «مسألة حياة» الى تقديم مفهوم آخر للموت، لا تلك “النهاية الابدية” التي يتفق عليها أغلبنا بل تلك «النهايات الصغيرة» التي نعيش على وقعها طوال حياتنا.. فالوحدة مثلا شكل من أشكال الموت المبكر وقد جسدت هذه الفكرة الممثلة كوثر الضاوي التي تحدثت عن نجاحها المهني وأيضا عن وحدتها العاطفية القاتمة التي جعلت حياتها أشبه بمعزوفة موسيقية محبطة.. أمّا ذاك الرجل (معز بالرحومة)، فقد عانى الأمرين وعاش موت الاحاسيس بسبب عدم انسجامه العاطفي مع زوجته وبرود مشاعرها إزاءه.. ومن الشخصيات التي شدتنا أيضا بأدائها، ذلك الفنان (سهيب الوسلاتي) الذي تقرأ في أدائه معاناة الفنان الذي يموت بالحياة مائة مرّة بعد أن تتقاذفه أمواج التهميش والنسيان وسياسات الابواب المغلقة.. والى جانب هؤلاء، تظهر امرأة بفستان أسود (نور الهدى ساسي) يبدو أنّ السياسة حولت نكهة حياتها الى طعم الحنظل وها إنّها لا تكف عن الصراخ: « اخرجوا من حياتنا.. اخرجوا من ذاكرتنا» وكأن وجودها مزقته السياسة ودمرّه حمق السياسيين وغباؤهم..
ومن أبرز ميزات مسرحية «مسألة حياة» رؤيتها الاخراجية التي نفخت فيها طابعا خاصا، فجعلتنا ننظر للركح وكأنه مسرح للموت تتنقل فوقه الاجنحة المتكسرة والارواح الهائمة بحثا عن طمأنينة مفقودة أو عن ضحكة مخطوفة.. ولقد جاءت بعض المشاهد بمثابة اللوحات التي تهامست فيها الاضواء البرتقالية والارجوانية والرمادية والزرقاء لتضفي شيئا من الأنوار على حياة من فقدوا الأمل بعد أن طال الانتظار، انتظار ضحكة الحبيب أو رقصة الحرية أو وعد بغد أفضل، لتنتهي المسرحية بمشهد شبيه بلوحة زيتية فائقة الجمال بعد أن تشابكت أجساد الممثلين الذين اجتمعوا وسط الركح رافعين شموع الأمل فوق رؤوسهم، ولسان حالهم يقول إنّ العتمة لا يمكن إن تغلب الانوار وإنّ الحياة ستنتصر حتما على كل محاولات القتل، قتل المشاعر وقتل الأحلام وقتل الأمل.
شيراز بن مراد

في كتابه الجديد: الصحفي نزار بهلول ينتقد مسـار الرئيـس الـمؤقـت الـمنصف الـمرزوقي


«رجل لم يعرف كيف يصبح رئيسا»، تحت هذا العنوان المثير للجدل أصدر الزميل نزار بهلول منذ أيام مؤلفا نقديا تطرق فيه إلى أهم المواقف والقرارات التي اتخذها الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي طيلة 22 شهرا من الحكم.. وفي هذا السياق استحضر الإعلامي في كتابه الذي صدر عن دار أبولونيا للنشر جملة من المحطات التي بقيت راسخة في أذهان التونسيين لما أثارته من استغراب وامتعاض وحتى استهزاء.. ينطلق الكتاب بفصل أول ذكّر فيه الكاتب أنّ المرزوقي لم يتحصل في انتخابات 23 أكتوبر 2011 إلا على 17 ألف صوت من جملة 4 ملايين ناخب وكيف عيّن على رأس الدولة التونسية بعد اتفاق مع حركة النهضة والتكتل، ثمّ ذكرنا الكاتب في عمله الذي ارتكز على بحث صحفي دقيق، بأبرز الهفوات التي ارتكبها المرزوقي مثيرة جدلا في وسائل الاعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، ولعل أبرزها عندما تطرق في أول خطاب توجه به الى التونسيين يوم 13 ديسمبر 2011 الى النساء التونسيات واصفا اياهن بالسافرات وبالمتنقبات والمتحجبات، مما فجّر موجة من التعاليق لم يفهم أصحابها لماذا أصر المرزوقي على التفرقة وعلى تجاهل القواسم المشتركة... ثم جاء دور السفير السوري بتونس، فقد قرر المرزوقي طرده بتاريخ 4 فيفري 2012 مما أثار انتقادات عدد هامّ من المتابعين للشأن السياسي وقد كان هذا القرار سببا في قطع العلاقات التونسية السورية وتعطيل مصالح عديد التونسيين المقيمين بسوريا دون أن ننسى ان قرار الطرد كان بلا معنى بما أنّ منصب السفير كان شاغرا منذ قرابة السنتين. مواقف سياسية سبّبت أكثر من حرج ديبلوماسي كما تطرق الكاتب الى مواقف المرزوقي ازاء الجزائر والمغرب ومصر وهي مواقف سببت أكثر من حرج ديبلوماسي بعد أن رأى فيها الطرف المقابل تدخلا في الشؤون الداخلية و في هذا الصدد نذكر على سبيل المثال طلب المرزوقي الافراج عن الرئيس المصري محمد مرسي وهو ما رأى فيه المصريون تدخلا في ارادة الشعب المصري وكذلك رفض الجزائر للوساطة التي حاول المرزوقي ان يلعبها لتقريب وجهات النظر بين الجزائر والمغرب هذا فضلا عن اعلانه عن حرية تنقل مواطني اتحاد المغرب العربي دون جوازات سفر وقد استغربت انذاك حكومتا المغرب والجزائر هذا القرار الذي لم تكونا على علم به. قرارات اضرّت بصورة الرئاسة ومن جهة اخرى، تطرق نزار بهلول الى ما أسماه معضلة المحيطين بالمرزوقي ومستشاريه حيث أنهم برزوا بتصريحات مخالفة للمنطق، منها ما كتبه عدنان منصر على موقع نواة من أنّ «للثورة أولوية على العدالة ولو أدى ذلك إلى بعض الظلم» وغيرها من المواقف التي اعتبر بهلول انها اضرت بصورة الرئاسة. ولم يكتف الصحفي في كتابه بذلك بل تطرق الى القرارات التي أعلنها المرزوقي ولم ينفذها ومنها اعلانه بيع القصور الرئاسية وتخصيص 20 % من مداخيل الفسفاط لمواطني قفصة فضلا عن قرار بيع طائرة بن علي التي مازالت الى الان رابضة في مكانها.. وعـلّق بهلول على تنكر المرزوقي لاصدقاء سنوات الجمر ومنهم عمر صحابو وتوفيق بن بريك وسليم بقة قائلا إنه: « عزل نفسه في قصر ـ سجن قرطاج بسجانين ـ حاشية جديدة». وعبّر الكاتب عن استيائه من فتح قصر قرطاج لمن هب ودب ذاكرا بالخصوص فتح أبواب الرئاسة لاعضاء من روابط حماية الثورة ولمتشددين دينيا فضلا عن السماح لكاميرا قناة حنبعل بدخول القصر وبتصوير مختلف زواياه وهو ما لا يتماشي مع المحاذير الامنية التي تستوجبها مؤسسة رئاسة الدولة. تجاذبات في اعلى هرم السلطة ولم تفت الصحفي نزار بهلول طبعا حادثة تسليم البغدادي المحمودي لليبيا والتي تمت دون علم المرزوقي مما أثار تجاذبات سياسية في أعلى هرم السلطة، وكذلك إقالة المرزوقي لمحافظ البنك المركزي كمال النابلي وتعويضه بالشاذلي العياري علی الرغم من ان حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ينادي بالقطع مع الوجوه التي شاركت في النظام السابق وما فتئ ينادي بسن قانون لتحصين الثورة.. كما عرّج بهلول على حادثة شيك الاموال التي استرجعتها تونس من البنوك اللبنانية وكيف حاول المرزوقي الركوب على الحدث متناسيا الدور الذي لعبه البنك المركزي ممّا أثار حفيظة المحافظ العياري إضافة إلى أحداث ستظل محفوظة في سجل المرزوقي كرئيس مؤقت.. وفضلا عن العمل التوثيقي الذي قدمه نزار بهلول فإن مؤلفه يدفعنا للتفكير حول مسائل أساسية منها الهوة السحيقة التي تفصل بيت السياسيين الذين يتولّون المناصب العليا وبين المواطنين العاديين الذين يعانون يوميا من مشاكل لا تجد سبيلا الى الحل وكذلك التدهور الذي مافتئت تعيشه تونس منذ انتخابات 23 أكتوبر 2013 ولا يخفى على أحد اليوم ان مدبّري جريمة اغتيال شكري بلعيد استفادوا من المناخ السياسي الذي شابته التجاذبات والخلافات وانعدام الثقة وقلة الجدية في التعامل مع كبرى القضايا الامنية و الملفّات الاقتصادية مما فتح الطريق امام عديد التجاوزات والانتهاكات الى جانب الصمت المطبق الذي لازمه المرزوقي وهو الحقوقي والرئيس السابق للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان إزاء عديد القضايا المتعلقة بحرية التعبير والمعتقد وقد وصل به الامر الى حد مقاضاة اعلاميين وهما الطاهر بن حسين وزهير الجيس.. كل هذا يدفعنا الى مزيد الاقتناع بأنه لا توجد معارك مربوحة بل انه علينا ان نناضل من أجل الحفاظ على مكتسبات التقدم والمساواة وان النقد سواء كان صحفيا أو فنيا لا يمكن أن يكون الاّ حصنا منيعا وسلطة مضادة في وجه كل الانحرافات السياسية.
شيراز بن مراد

الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

إنـ.. عاش لكمال التواتي: اسعافات مسرحية حتى لا ينقطع الخيط الذي يربطنا بالحياة


«فيق من النوم» جملة رهيبة انطلقت بها مسرحية «انـ.. عاش» التي قدّمها مؤخرا المسرحي كمال التواتي على خشبة المسرح البلدي بالعاصمة.. جملة رهيبة استفز بواسطتها التواتي ضمائر الحاضرين ليدعوهم الى الدخول في طرحه الفني الجديد الذي تضمّن جملة من الرسائل السياسية ذات العلاقة المباشرة بما يعيشه التونسيون اليوم.. الطبق كان كما قلنا سياسيا بإمتياز، حرّك من خلاله التواتي المياة الراكدة داعيا المواطنين الى ان يمارسوا مواطنتهم وليكونوا فاعلين في تقرير مصيرهم..
كمال التواتي لم يعط أجوبة بقدر ما طرح أسئلة حول عديد النقاط التي يدور حولها النقاش العام حاليا ومنها اشراك «المسامر المصددة» في الحراك السياسي من عدمه في اشارة واضحة الى رموز العهد البائد، وصورة الدمّالة» التي اختلف الفرقاء في طريقة مداواتها في ايحاء للمشاكل التي تعاني منها تونس ومنها البطالة والارهاب وغيرهما، ولإختلاف المقاربات في معالجتها..
في فضائه المغلق (الركح كان بمثابة قاعة بمستشفى) واصل كمال التواتي محاولته الفنية لإنعاش الجسد التونسي المريض محذرا من الامراض السياسية القديمة-الجديدة على غرار مساحات الحرية التي تسعى الدولة الى الحدّ منها اذ يقول التواتي «نسيّبوك لكن موش على طول ذراعك ها.. ها» وهي جملة تلخّص وحدها كل التجاذبات القائمة بين السلطة من جهة والفنانين والاعلاميين من جهة اخرى، فكل يعمل لبسط نفوذه: نفوذ الهيمنة مقابل نفوذ الحرية.. ومن بين الأمراض السياسية التي استحضرها التواتي كذلك “جنون السلطة” الذي يمتلّك كل من يصعد الى منصب المسؤولية، وعلّق التواتي قائلا: « كل ما تزيد تطلع، كل ما اللطخة تكون أقوى» وهو درس سياسي من الصنف الاول إذ عادة ما تكون المحاسبة أعسر كلّما اقترب المنصب أكثر من أعلى هرم في السلطة..
وبين الرسالة والاخرى، يستنجد التواتي بلوحات حبلى هي أيضا بالرمزية على غرار سطل الماء الذي رشّ به الركح وكأنّه يحاول أن يدخل شيئا من الصفاء على عالم زايد فيه النفاق على النفاق.. ولئن كانت مسرحية «انـ.. عاش» ناجحة في مجملها لمّا فيها من مضامين قوية ومعبرة عن واقع تونس اليوم فإنّ ما نعيبه عليها هو غياب عنصر المفاجأة الذي عهدناه في أعمال كمال التواتي المسرحية بصفة عامة، فلم تبعد المسرحية عن السياق العام وعن اتجاه الحراك الذي دأب التونسيون عليه منذ فترة..
«إنـ.. عاش» أنعشت شيئا من كياننا الذي أصابه الوهن في ظل إنسداد الآفاق ونفاق السياسة واستفحال الارهاب، مثيرة السؤال ومنادية الى التفاعل والعطاء فجاءت بمثابة «الاسعافات المسرحية» التي يمارسها الفنان حتى لا ينقطع الخيط، الخيط الرفيع الذي يربط جسد المريض بالحياة فتدعوه أن لا يخضع ولا يستسلم.. وتلك أجمل رسالة تضمنتها «إنـ.. عاش».
شيراز بن مراد

غريب: وزارة الثقافة ترفض إقتناء فيلم تونسي توّج في أكبر المهرجانات السينمائية


خلال شهر جويلية 2012 بدأت الأصداء الطيبة تصل الى تونس بخصوص فيلم «بابل» (Babylon) الذي أخرجه الثلاثي إسماعيل وعلاء الدين سليم ويوسف الشابي، وذلك بعد عرضه لأوّل مرّة في إطار مهرجان مرسيليا للأفلام الوثائقية.. ولم تخطئ التوّقعات حيث فاز الفيلم التونسي «بابل» بالجائزة الكبرى للمهرجان في دورة 2012، وهي أوّل مرة يتوّج فيها فيلم تونسي وثائقي بجائزة من هذه الدرجة. وقد كتب الناقد السينمائي طاهر الشيخاوي آنذاك مقالا تطرّق فيه للمنحى الإنساني الذي نبض به فيلم “بابل” والذي رأى فيه الشيخاوي درسا في التواضع السينمائي الذي يهدف لخدمة حقوق الإنسان وقضاياه العادلة، علما وأنّ شريط «بابل» تطرق لقصة مخيّم الشوشة هذه “المدينة” التي احتضنت مئات الآلاف من اللاجئين الذين فرّوا من ليبيا إثر اندلاع ثورة 17 فبراير..
وبعد التتويج الفرنسي، تمكن «بابل» من الفوز بعدّة جوائز أخرى في مهرجانات دولية بعد أن تنافس مع أقدر المخرجين وأفلام من طراز رفيع وذلك في أكثر من 50 مهرجان سينمائي في العالم… فضلا عن مئات المقالات التي أشادت بقيمة الفيلم سواء على المستوى الفني أو على مستوى المضمون والرسائل.. وبعد هذا الاعتراف الدولي، جاءت الخيبة من تونس وتحديدا من وزارة الثقافة حيث صُدم مخرجو الفيلم الثلاثة والشركة المنتجة له (إكزيت للإنتاج) بموقف وزارة الثقافة التونسية المخيّب للآمال، فقد رفضت لجنة دعم اقتناء الأفلام شراء شريط “بابل” الذي يعتبر من أبرز الأفلام الوثائقية التونسية التي أنجزت في السنوات الأخيرة.. فهل من تفسير لهذا الموقف الغريب والذي لم نجد له أي مبرر ناهيك أنّ المقاربة السينمائية التي إنتهجها المخرجون متميزة على أكثر من مستوى وتم خلالها تسخير السينما لرفع الستار عن واحدة من أكبر التراجيديات الإنسانية التي سجلّها التاريخ في بداية هذا القرن؟
وفي هذا الصدد، أبلغنا الناقد السينمائي الناصر الصردي، أنّ فيلم “بابل” يستحق منطقيا موافقة لجنة إقتناء الأفلام بوزراة الثقافة، فهو في نظره فيلم وثائقي جيّد تمكن من التميّز على المستوى الدولي، فضلا عن المقالات التي أشادت بقيمته الفنية ومنها ما نشر على سبيل المثال بـ”كراسات السينما” (Les cahiers du cinéma) وغيرها.. وأضاف الصردي قائلا: “كان من المنتظر أن توافق لجنة إقتناء الأفلام على شراء فيلم “بابل” بالنظر للنجاح والإعتراف الذي حققه على المستوى الدولي خاصة وأنّ شركة “إكزيت” المنتجة للفيلم ما فتئت تخصص الأموال التي تلقتها للإنتاج السينمائي ولا لأغراض أخرى”.
ومن جهة أخرى، إعتبر ناصر صردي أنّه على لجنة إقتناء الأفلام -وهي لجنة متكونة من 3 أشخاص- أن تعتمد على مقاييس واضحة وأن تتوخى الشفافية عند إقتنائها للأفلام التونسية، فهناك أعمال دون قيمة تم إشتراؤها.. وأكدّ الصردي على ضرورة القطع مع سياسة الغموض التي لا تخدم السينما التونسية بل تزرع الشك واللبس حول آداء هذه اللجنة.. وقال الصردي إنّه من المنتظر الآن أن يتم نقل صلاحيات إدارة السينما الى المركز الوطني للسينما والذي تم بعثه مؤخرا لكي ينكب على معالجة مختلف الملفات الشائكة للسينما التونسية ويتولى ضبط المقاييس الشفافة التي من شأنها أن توّضح “قواعد اللعبة” بعيدا عن الأحكام الشخصية التي قد تظلم أعمالا تستحق الدعم والمساندة.
فلماذا تُصرّ وزارة الثقافة على إحباط عزائم أبرز المخرجين الشبان؟ ولماذا تُصرّ على خلق الخيبة والإستياء في نفوس من يمثلون الجيل الصاعد والواعد للسينما التونسية؟ لقد أرّخ إسماعيل وعلاء الدين سليم ويوسف الشابي من خلال عملهم السينمائي «بابل تونس» أو مخيمات الاجئين بالشوشة لتظل محفورة في الذاكرة التونسية والإنسانية.. فهل من حقّ وزارة الثقافة تجاهل التاريخ وقهر المبدعين؟؟
شيراز بن مراد

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013

فيلم «على هذه الارض» لعبد الله يحيى: وجيعة الطفل، وجيعة القرية، ووجيعة الوطن


في صميم وجيعة فتى برئ، في صميم وجيعة قرية تونسية منسيّة، في صميم وجيعة شيوخ وهنوا بفعل التهميش.. في صميم هذه الوجيعة المتعددة الملامح، وفي أجواء قرية العمران المتفرّعة عن مدينة المكناسي من ولاية سيدي بوزيد، أوغلنا المخرج الشاب عبد الله يحيى من خلال شريطه الوثائقي «على هذه الارض» والذي توّج يوم السبت 28 سبتمبر 2013 بالجائزة الكبرى لمهرجان فيلم حقوق الانسان نظرا إلى لغته السينمائية السلسة وشاعريته المرهفة مثلما جاء على لسان عضو لجنة التحكيم الناقد السينمائي ناصر الصردي..
فعلى وقع قرع طبل حديدي، تقترب كاميرا المخرج عبد الله يحيى من مجموعة من الأشخاص تجمهروا لقطع الطريق المؤدية إلى قرية العمران احتجاجا على احتجاز عدد من أبنائهم في السجن بعد أن طالبوا بحقّهم في التشغيل وفي التنمية الجهوية وفي العدالة الاجتماعية.. تتوقف الكاميرا عند وجه الطفل حمزة الحيدوري الذي يدعو من خلال اللافتة التي يحملها بين يديه إلى إطلاق سراح والده الذي طالب بتوفير شغل قار تقتات منه عائلته الصغيرة.. ومن عيني حمزة الكستنائيتين الشفافتين يدرك المتفرج حجم الرسائل المتضمنة في الفيلم والتي تراوح بين الحلم والخيبة وبين العزم والاحباط بعد أن أدارت السياسة وجهها عن واقع الوطن..
شيئا فشيئا يستدرجنا المخرج الى عمق وجيعة قرية العمران، هذه الارض المعزولة التي بعثت في بداية الستينات في إطار التعاضد الذي أراد احمد بن صالح ارساءه، ومن خلال شهادات أهالي القرية نكتشف حجم معاناة المتساكنين الذين يفتقرون الى أبسط مقومات العيش الكريم، ولعل اللافت للنظر في خطابهم هو شهامتهم كمواطنين تونسيين تنكّر لهم الوطن وتناستهم السياسة وهمشتهم الجغرافيا، وحول هذه النقطة بالذات سعت كاميرا عبد الله يحيى ومدير تصويره مهدي بوهلال الى تكبير الصورة لتبرز جفاء الطبيعة والمناخ، جفاء لم يسهّل حياة المتساكنين بل جعلهم ينفرون من الاحجار المتكلسة ومن نبتة الحلفاء التي غطت الاراضي الشاسعة في حين أن هذه الربوع يمكن ان تدرّ خيرات بلا حساب لو توفرت الارادة ونصيب من الامكانات..
ومن أبرز نقاط قوة فيلم «على هذه الارض»، قدرة المخرج على الاقتراب من ذلك النسغ الحيّ لقرية العمران، فوراء الوجوه معاناة وفي القلوب خيبات وفي الصدور وجيعة الذات والوطن وفي الطبيعة خلاء محبط..  وتتوالى الشهادات، شهادات الآباء الذين دخلوا في إضراب جوع للمطالبة باطلاق سراح أبنائهم، الشهادات الصامتة كما الشهادات الشفوية تفصح الكثير عن هذا الوطن الذي تناسى أبناءه ومنها «طلبنا مع من نتحاور فلم نجد سوى الدز والفز»، و«حاكمنا ما تفقدناش منذ ذلك الزمن»، و«ما عندي كان حرية التعبير وكان صهيوني يوفر لابنائي الشغل نخدم معاه»، و«العمران مهانة» و«اعمل الخير في شعبك» و«هكذا كافأتنا تونس كرتوش وكريموجان» و«شكون ضرب ولدي؟ ضربو تونسي» و«كلنا في حالة سراح مؤقت» و«لا عربي لا مسلم لا متدين، ما فمة إلا شخص يخدم وطنو» الى غير ذلك من الشهادات التي تعلن الاستعداد للتخلي عن جنسية وطن تنكر لابنائه..
وبلمسات الفنان الساحرة، يمرّ بنا المخرج عبد الله يحيى عبر عدد من المشاهد من «سماء النجوم» الى «سماء الحلم» بعد أن يلتقي الطفل حمزة الحيدوري جدّه في ظلام العمران وتحت جذوع شجرة عملاقة تحمي حديثهما من برد الليل ووحشته.. يسأل حمزة: «لماذا أدرس يا جدي اذا كانت الشهائد لا تضمن الشغل؟» فيجيب الجدّ «أُدرس لكي لا تيأس يا بنيّ».. ينتهي الكلام الذي يلملم الجراح لتحلّ «سماء الحلم» محلّ «سماء النجوم» في حيلة بصريّة تظهر فيها رسوم تجسد أحلام حمزة الطفولية وبراءة الفتى الذي يريد ان يصبح رائد فضاء أو طبيبا جراحا..
وفي الشريط كذلك مشاهد حبلى بالمعاني اختزلت حجم الهوة السحيقة بين الخطاب السياسي الاجوف واللغة الخشبية ووعود رجال السياسة من جهة، وواقع الجهات التي تعاني من التهميش من جهة اخرى، ومن بين هذه المشاهد تلك اللوحة التي يظهر فيها مسنّان يجلسان فوق حصير بيتهما وصوت المذياع يقول إن رئاسة الجمهورية نظمت ندوة بمشاركة خبراء أجانب للنظر في السبل الكفيلة بمكافحة الفقر وإن النتائج ستظهر بعد سنوات.. بمشاهده هذه، أبرز عبد الله يحيى حجم القطيعة الحاصلة بين المركز والجهات وحجم غياب الارادة السياسية في تحسين الواقع المعيش ولو بإجراءات استعجالية بسيطة تنفض الغبار الذي تكدّس منذ سنين في القلوب وفي الشوارع وفي المؤسسات.. ألم يعبّر الطفل حمزة الحيدوري عن حلم بسيط في آخر الشريط يتمثل في ادخال خط هاتفي إلى مستشفى الجهة؟
«على هذه الارض» فيلم اقتفى أثر وجيعة طفل حُرم من والده، ووجيعة قرية مهمّشة ووطن تنكّر لابنائه، وقد مارس عبد الله يحيى في شريطه السينما بوصفها فعلا مقاوما كشف من خلاله واقع بلد «في حالة عطب» عبر نقل معاناة سكان احدى قراه، وذلك بلغة «القلب» الذي ينشد كرامة الانسان ولا شيء غير ذلك.
شيراز بن مراد