الثلاثاء، 11 يونيو 2013

«مراحيل» للمخرج حافظ خليفة: سـمـفـــونـــيــــة بصــــرية تنــشــد الحريّة والـــحـــق فـــــي الاختـلاف


«يملكون كل شيء وقلوبهم كلها بغض، وحنا جواعة وعطاشة وقلوبنا كلها حب».. هذا ما ردّده أحد ابطال مسرحية «مراحيل» للمخرج حافظ خليفة والتي عرضت في موفى الاسبوع الفارط بقاعة الفن الرابع بالعاصمة.. جملة تعبر عن الكثير مما يعيشه ابطال المسرحية، هؤلاء الفارون من ظلم الحكام الطغاة والذين اختاروا الالتجاء إلى كهف بالجبل الابيض بعيدا عمن أعماهم الذهب الاسود وعن التكفيريين وكارهي المرأة والمتربصين بها وغيرهم ممن يريدون فرض احكام «الوالي» دون نقاش وبكل وحشية… وتتطرّق مسرحية « مراحيل» التي صاغ نصها الكاتب علي دب الى  موضوع انساني شائك ذي علاقة بالشعوب الذي تنغلق على نفسها رافضة الاعتراف بحق الاختلاف وبالحرية، فتراها تضطهد فئات منها وتلاحقهم في محاولة لتدجينهم ولتقييد احلامهم وحتى لقتلهم..

ويثير الكاتب بالخصوص اشكاليتي المبدع والمرأة ومكانتهما في المجتمعات الظلامية التي تتهجم على هاتين الفئتين بصفتهما كيانين يصبوان الى الانعتاق والتحرر من القيود والاطواق التي تضعها التركيبات المجتمعية التقليدية.. وفي السياق نفسه، تتعرّض «مراحيل» بلغة مسرحية غير مباشرة الى الوضع الذي تعيشه بلدان الربيع العربي والى المنحى الذي اتخذته بعض الثورات على غرار تونس ومصر حيث أضحى الاختلاف جريمة والسّفور عهرا والشِّعر خطرا والكلمة الحرة انقلابا والخارج عن الملّة كافرا يستحق القتل، كل ذلك في  نقد واضح للسلط القامعة سياسية كانت أم دينية وفي محاولة لاعلاء صوت التائقين للحرية وللتحليق في الفضاءات الرّحبة..

وقد سندت المسرحيّة رؤية اخراجية مبدعة فضلا عن تميّز الديكور والاضواء وتحرك الممثلين (علي قياد، أنور بن عمارة، أسماء بن حمزة، رياض الرحومي، مسعودة الزرقاني، محمد أمين قمعون، كامل حداد) على الركح بطريقة تشدّ انتباه المتفرج لجماليتها الفائقة حتى أنّ بعض اللوحات بدت وكأنّ واضعها ساحر سهر على رشق نجوم هنا، وعلى خلق سراب هناك (مشهد المعدمين)، وعلى نفخ حياة في لوحة انعدمت فيها الروح والألوان، وعلى إشاعة الإحساس بالأمل والحلم في صلب الظلام، وغيرها من المشاهد الاخرى التي أكّدت لنا ان حافظ خليفة سعى في عمله هذا الى استخراج رحيق مسرحي نادر ينشد الجمال بكل ما في هذه الكلمة من معان في عالم فقد مقومات الإنسانية وأضحى الدم والظلام من سماته الأساسية… «مراحيل» سنفونية بصرية تشدو الحرية والحق في الاختلاف في زمن الرايات السوداء ومن أعمى الذهب الاسود بصرهم وبصيرتهم.
شيراز بن مراد

معرض «سيــاسيــــات 2»: عندما يرتدي الفن لبوس السياسة


بعد الثورة، لم تترك السياسة مجالا الا واقتحمته، سواء كان اجتماعيا أو اقتصاديا أو فنيا.. ولكن في معرض «سياسيات 2» الذي ينتظم بدار الفنون بالبلفدير بدا لنا أن الفن هو الذي اقتحم السياسة ليطوّعها كمادة بهدف التعبير عن مواقف ورؤى ارتدت لبوسا ابداعية مختلفة.. فما ان تطأ قدماك رواق البلفدير، تستقبلك على يسراك شاشة عملاقة متكونة من شاشات صغيرة تتطرق كلها إلى تيمات سياسية ولكأنّ بصاحبها الفنان اسماعيل يوجه نقدا إلى عالمي الاعلام والسياسة بعد أن أضحى الاول لعبة بأيدي رجال السياسة ورجال الدين الذي غزوا المنابر التلفزية لالقاء خطب رنانة وجوفاء طامعين في كسب ود المواطن وصوته.. في حين أصبحت السياسة بمثابة «تمثيلية» ينحصر مربع وجودها على شاشة التلفزة وذلك في محاولة لاحتلال بيوتنا بينما يظل العمل الميداني والاستماع الى شواغل الناس غائبا.. ولقد ذكرتنا اللوحة ـ الشاشة التلفزية بتقسيماتها السوداء بقضبان السجن المتعامدة، فهل أراد الفنان اسماعيل أن يسجن هذا العالم الاعلامي ـ السياسي ليتركنا نحن ننعم بالحرية وبراحة البال بعيدا عن «معمعة» أطماع السياسيين والاعلاميين سواء في كسب ودّ المنتخبين أو في استقطاب المشاهدين..

ومن الاعمال الاخرى التي شدّتنا في معرض «سياسيات2» الذي يتواصل الى غاية 31 ماي، لوحة للفنان ماهر قناوي وهي عبارة عن بالوعة ماء تتوسط لوحة رمادية وتتسلّل إليها دماء حمراء قانية.. وتنقل هذه اللوحة، بفضل شحنتها الفنية، تشاؤم الرسام، وكأنّ بمآل دماء شهدائنا بالوعات المدينة بعيدا عما يناسب تضحية أبناء تونس من أجل الحرية والكرامة والعدالة.. وربّما أراد ماهر قناوي أن يقول لنا أنّ: «دماء أبنائنا سالت في البالوعات كما تجري المياه الملوثة في المجاري الخلفية دون أن نتمكن من اعادة الاعتبار إلى هذه الدماء القانية التي صنعت مجد الثورة التونسية».


وتتوالى في المعرض اللوحات المعبرة دائما عن قراءة فنية للاوضاع السياسية.. وقد شدّنا عمل مميز للمصور الفوتوغرافي الفرنسي ماتيو بوشريط الذي دعانا لتجربة حسية يدخل خلالها الزائر غرفة سوداء ويدوس على قرص احمر لآلة فوتوغرافية موجودة في قلب القاعة المظلمة فإذا هي مفاجأة من الحجم الثقيل اذ يكتشف لوحات لضحايا فلسطنييين وسوريين أغلبهم من الاطفال.. ينطفئ الضوء وتغيب الصور، فيعاود المشاهد الكرة، فتظهر الصور من جديد وكأنّنا بالمصوّر بوشريط يدفعنا إلى التساؤل هل إنّنا واعون بحجم المأساة التي يعيشها الملايين منّا أم إننا نعيش كابوسا من أسوأ ما يمكن أن يصنعه الانسان بأخيه الانسان..؟ وقد أعجبنا بهذه «التنصيبة» INSTALLATION التي تضع زائر المعرض في موقع مراسل الحرب وهو بصدد أداء مهمته الاعلامية من قلب المأساة بين جثامين الضحايا وتحت الأنقاض..


وبالمبنى المحاذي لدار الفنون، تتواصل الرحلة مع أعمال فنية أخرى لعاطف معطا الله ونضال شماخ وشادي زقزوق وغيرهم وهاكم فكرة عن تنصيبه للفنان نضال شماخ الذي بنى جدارا فاصلا بواسطة صناديق الاقتراع بمادة محنطة وبقطع لحم حيوانات فتنعدم الرؤية بالنسبة إلى المشاهد الناخب الذي كان ينتظر أن تفتح له صناديق الاقتراع أبواب أمل جديدة وثنايا حلم جميل فإذا بها تتحّد ضدّه لتجعل رؤيته ضبابية ولتفتت ما بداخلها من مادة لتجعلها مجرد بقايا تثير الاشمئزاز.. فهل كانت صناديق 23 أكتوبر صناديق للحياة أم للعتمة؟


بالفضاء نفسه أيضا، تستوقفك لوحات للفنان الفلسطيني شادي زقزوق ويبدو أنه تم منعها من العرض في إحدى الدول العربية التي رأت فيها تجاوزا لـ«الاخلاق» وقد رسم زقزوق ملابسا داخلية وكتب عليها كلمة «ارحل» وهي كلّها أعمال تحمل طابعا انسانيا واضحا وتستدعي فكر الزائر وحسّه فتشده بما تختزنه من تيمات ومن جمالية.. «سياسيات 2» يتواصل الى غاية 31 ماي الجاري بفضاء الفنون بالبلفدير، فلا تفوتوا فرصة زيارته للاستمتاع بقراءات فنية للواقع السياسي في تونس وفي العالم أيضا..

شيراز بن مراد