الجمعة، 31 أكتوبر 2014

مسرحية «الماكينة» لوليد الدغسني: عندما يفقد العالم العربي عقله...

من على متن سفينة تعطّب مُحرّكها في عرض البحر تنطلق الحكاية، حكاية حاكم معزول عن شعبه، حاكم عاوده الاستبداد بعد الثورة، حاكم لم يُدرك معنى حرية التعبير، ولم يسع الى الاقتراب من أحلام الشباب فكان أن دفعهم مجدّدا إلى معانقة حبال النهاية.
في «الماكينة» العمل المسرحي الجديد للمخرج وليد دغسني، والذي عُرض الأسبوع الفارط بفضاء التياترو، يروي الدراماتورجي والمخرج قصّة سيزيفيّة، تلك التي يُجبر فيها الشعب على رفع الصخرة الى أعلى الجبل بعد أن تسقط في الوادي كلّ مرّة لأنّ الحاكم لم يفهم، لأن الحاكم لم يفقه في إشارة للمصير التراجيدي للعالم العربي.
يرتدي أبطال الدغسني (منير لعماري في دور القبطان-الديكتاتور وأماني بلعج في دور الصحفية وكريم الغربي في دور المستشار) لبوس شخصيات كان من المفروض ان تنقرض من المشهد، ان يلفظها المجتمع لكنها تأبى إلاّ أن تخرج مجدّدا من قمقمها لتكرّس التجبّر والتسلّط والتهميش.
على وقع موسيقى كلاسيكية ضارية، يرفع وليد الدغسني في مسرحية «الماكينة» مراياه في وجه المستبدين الجدد عساها تعكس لهم حجم التشوّهات التي يحملونها وحجم الدمار واليأس الذي خلّفوه في نفوس المواطنين، مواطنين طيّبين، اذكياء، محبّين للحياة ومقبلين عليها بنهم، غير انّ المستبد يسبح في مياه أخرى بعيدا عن يابسة شواغلهم.
في هذا العالم السياسي المنغلق والذي تحرّكه حبال الدسائس وخيوط الجشع يُقحمنا وليد الدغسني، فنسير في دهاليز السلطة المستبدّة وأقبيتها المظلمة بكلّ ما تتضمنه من انفراد بالرأي ولغة خشبيّة وعنف. ويتطرّق الدغسني في جانب كبير من مسرحيته الى موضوع حرية الصحافة وكيفية تدجينها من قبل السلطة. فإذا أُحْكِمت القبضة على الإعلام حلّ الظلام وانعدمت جدوى هذه السلطة المضادة. ويمكن القول إنّ ثنائيّة السلطة والإعلام ممثّلة في الممثّلين منير لعماري وأماني بلعج شكلت مربط الفرس الذي يجب أن يظلّ تحت المجهر حتى لا تنحرف السياسة عن مسارات الديمقراطية.
غير انّ المسارات انحرفت في مسرحية الدغسني بشدّة، انحرفت الى درجة انّ المواطنين تحوّلوا جينيّا ليصبحوا شبيهين بكائنات سريالية (مشهد الضفادع الثلاث المميّز). إذ يدفعك الواقع المشؤوم في العالم العربي الى فقدان انسانيّتك، إلى التخلّي عن جزء من بشريتك لتتخذ شكلا جديدا في خطوة لحماية النفس من الجنون ربّما.
بين «القمرة السلطانة في قلب السماء» وبين «الفراغ الذي لا شيء ينمو فيه سوى الجحيم» مثلما جاء على لسان الممثل مكرم سنهوري، يتدحرج الانسان العربي: بين الحلم بالجمال ونيران الواقع، بين طيبة القلوب وسوء النوايا، بين الأشرعة البيضاء والرايات السوداء. على هذه الأرض العربية المُتقلبة، تصعب الحياة بكرامة ويصعب معها التمتّع بالحقوق وبأبسط الحرّيات، بعد أن تُزرع بذور اليأس وينثر الحاكم حبيبات الظلم لتنمو وتتشابك راسمة قضبان السجون الجديدة. وقد جسّد الدغسني هذ المعاني من خلال لوحة الانتحار المؤثرة التي يضرب فيها الممثّلون حبالا حول أعناقهم، مشهد ضارٍ يرسم نهاية الانسان الذي يفقد كل امكانيّة للحلم والأمل.
بعد مسرحيتي «انفلات» و«التفاف»، يضرب الدغسني موعدا جديدا مع جمهوره ليقول انّه لمّا تُسرق«الماكينة» أو بالأحرى «العقل»، يفقد العالم العربي بوصلته ويفقد انسانيّته، فدون عقل ودون فكر ودون علم ودون فن، يلامس العرب القاع: ديكتاتورية عمياء من قبل السلطة ويأس واحباط من جهة الشعب، وهو خسران مضاعف. فلماذا نتمادى فيه؟ وهي الرسالة الأولى التي بدا لنا أنّ الدغسني ضمّنها في عمله.
- مسرحية "الماكينة" من انتاج شركة كلندستينو بدعم من وزارة الثقافة
ـ دراماتورجيا واخراج: وليد دغسني.
ـ اداء: اماني باللعج ـ اروى بن اسماعيل ـ منير العماري ـ مكرم سنهوري ـ كريم الغربي
شيراز بن مراد
تصوير كريم عامري

معرض "مزهريات الرّوح" لعبد الحميد عمار بدار الثقافة ابن خلدون: فنطازيا الحدائق الغنّاء

ينفخ الرسام عبد الحميد عمار في ألوانه روحا خاصّة، فيرسم من خلالها سنفونية تبشّر بالفرح القادم وتخفق بنبض السّعادة التي تتحدى أكبر الأحزان. يستوقفك المعرض الذي ينظّمه الفنان عبد الحميد عمار بدار الثقافة ابن خلدون بالعاصمة بفنطازيا الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر والبرتقالي، فنطازيا لونية سعيدة تعانق أقاصي الفرح والحبور، فتودّ لو تجلس حذو احدى مزهرياته ـالمعرض يحمل عنوان "مزهريات الروح"ـ  لتنعم برؤية الحدائق الغنّاء بظلالها الوارفة وبسحرها الخلاب بعيدا عن «أسلاك المدينة الشائكة التي تصنعها أياد بشرية خارج دائرة العقلانية والضمائرية» كما جاء في النص التقديمي للمعرض.
ولعلّ الطريف في معرض الفنان عبد الحميد عمّار وهو أصيل مدينة طبلبة الساحلية، ذاك الشكل الذي أعطاه لمزهرياته إذ جاءت كلّها في صورة جنين يتولّد منه الأمل والعلم والفرح، ما عدا مزهرية وحيدة أخذت صورة جمجمتين وكأنّ بالموت يمكن ان يطوي الصفحة هو أيضا ليزهر بهجة وألوانا.
بعيدا عن سكاكين الغدر ونيران القهر، يرسم عبد الحميد عمار عالما مزدهرا على طرف نقيض من العالم الذي نعيش فيه، يرسم السعادة وهشاشة أحاسيس الفرح الأول، يصوّر بألوانه حبورا وراحة المروج المترامية.
يرسم في لوحاته مرادفات الزمن الجميل، ذاك الذي ينتفي منه الحقد، ذاك الذي لا يعترف الاّ برقة البتلات وبرهافتها، ذاك الذي لا يشعر الا برهافة أحاسيس أجمل ما يمكن ان تهديه الطبيعة من ورد ونرجس وشقائق نعمان وأزهار الأوركيد والمانيوليا.
يقول عبد الحميد عمار، من خلال مزهرياته الوارفة أو بالأحرى من خلال أجنّته الولاّدة أنّ الحياة لا يمكن ان تكون الا هكذا، بهجة وبهاء وانشراحا ونشوة بهذا العطاء الإلاهي اللامحدود.
قد تأخذ أزهار عبد الحميد عمّار في بعض اللوحات أشكالا هندسية متنوّعة ولكنها تظلّ توحي في كل الحالات بإنفجار زهري قوي ومنعش، انفجار يسحب البساط من تحت أقدام انفجارات الكراهية والإقصاء، انفجار لذيذ بنكهة سعادة صادقة، تلك التي تطلّ من حين إلى آخر على حياتنا ولو كانت في شكل معرض فنّي.

شيراز بن مراد
- يتواصل معرض «مزهريات الرّوح» للرسّام عبد الحميد عمار بدار الثقافة ابن خلدون الى غاية يوم 7 نوفمبر 2014.

في مسرح الحمراء: فتوحات ثقافية في قلب العاصمة

إحتضن مسرح الحمراء يوم الجمعة 24 أكتوبر حفل إختتام فعاليات الدورة 61 للمركز العربي الإفريقي للتكوين والبحوث المسرحية. وكانت فرصة ليؤكد فيها الثنائي عزالدين قانون وليلى طوبال سيرهما على درب "الإبداع" بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من توق للتحرر ومن مقاومة ومن طرح لقضايا حارقة كجنون السلطة والحرية وآلام الحروب وغيرها من الاوجاع الإنسانية. وهي التيمات التي طُرحت في الأعمال الثلاثة التي قٌدمت من قبل طلبة المركز الذي تدعمه ماديا مؤسسة "يون".
وتجدر الإشارة الى أنّ الأعمال المسرحية المُصغرة التي قُدمت في الحفل الإختتامي أبرزت الدور الذي يمكن أن يلعبه المسرح في تحسيس الأفراد بمعاناة الآخرين وفي دفعهم لكي يكونوا عنصر مقاومة في وجه الإضطهاد والتطرف، فضلا عن الجانب الجمالي الذي لمسناه في العروض الثلاثة.  
هذا وشهد الحفل الإختتامي تسليم شهائد للطلبة المتخرجين من الورشات الثلاث التي تم تنظيمها: ورشة الإخراج والتمثيل تحت إشراف المسرحي عز الدين قانون (الدفعة السادسة) وورشة الكتابة تحت إدارة الفنانة ليلى طوبال (الدفعة الخامسة) وورشة الملابس تحت إدارة بسمة الزوالي (الدفعة الثالثة).
وغادر الحاضرون قاعة العروض على وقع الكلمة التي ألقاها المسرحي عز الدين قانون والتي تولى خلالها الترحم على أرواح 3 مسرحيين غادرونا سنة 2014 وهم بشرى لدغم وعبد المجيد بلكحل والسينغالي عمر نداوو.
والى جانب ذلك، بادر أصحاب مسرح الحمراء بتنظيم تظاهرة فنية ''فن في الخربة" (Kherb’Art') بالساحة العمومية مدق الحلفاء-الخربة الكائنة بنهج الجزيرة قبالة المسرح. وهي تظاهرة يمكن أن تُحسب على "الفتوحات الثقافية" بما أنّ الفن يغزو من خلالها فضاءات المدينة المهترأة والتي طغى عليها الطابع التجاري بعيدا عن البعد الإبداعي الذي من المفروض أن ينبض به قلب العاصمة. وصرّح لنا عز الدين قانون أنه تم تجهيز الساحة بمعلقة فنية عملاقة من شأنها أن "ترتقي" بالمكان وتجعل منه إستراحة فنية وقبلة لجماهير مختلفة معبرا في الآن نفسه عن أسفه من البطء الذي تتفاعل به بلدية تونس مع الفعل الثقافي عوض إقتناص الفرصة والعمل على ترميم المكان حتى يكون فضاء ثقافيا يجد فيه المارّة متنفسا فكريا في شارع حيوي في تونس.
ومن جهة أخرى، أسرّ لنا جوهر السوداني الشاب الذي صممّ اللوحة الفنية التي "غُرست" في الخربة أنه إنطلق من تونس وبما تعج به من معمار وأحاسيس ليقدم عملا يتسنى للعابرين من عمال وموظفين وعائلات وعاطلين التمتع بمعانيه ودلالاته مجانا ودون قيد الفضاء المغلق.
حصل كل ذلك على بعد عشرات الامتار عن شارع الحبيب بورقيبة حيث تعالى صخب الأحزاب السياسية في هرولة أخيرة لإبتزاز أصوات الناخبين بعيدا عن الحلم والصدق والإبداع التي إحتضنها مسرح الحمراء. فتحية خالصة لليلى طوبال وعز الدين قانون وكل الفنانين الصادقين الذين يحبون البلاد كما لا يحب البلاد أحد رغم الضباب المخيم ومحن الواقع.

شيراز بن مراد