السبت، 26 أبريل 2014

في عرض «قهوة»: حفيز ضو وعائشة مبارك يراقصان أشعار محمود درويش

رائحة قهوة فوّاحة تسرّبت إلى أنوف المتفرجين الذين واكبوا يوم الجمعة الفارط عرض «قهوة»، لحفيز ضو وعايشة مبارك الذي قدّم للمرة الثانية في ملتقى قرطاج للرقص.. فمن تحت كوم فناجين بيضاء، استلّ حفيز ضو ركام جسده شيئا فشيئا.. ورغم أنه كان يجهل ما حدث له بالضبط، فقد كان متأكدا أنّ نورا فجريا سينير دروب الحياة التي كتبت له من جديد..

فيتحامل على نفسه ويتلوّى ويتمرّغ بحثا عن بصيص أمل إلى أن تتناهى إلى مسمعه كلمات الشاعر محمود درويش، كلمات من قصيد «مقهى وأنت مع الجريدة» فتفتح عينيه حول تلك السعادة البسيطة التي يمكن أن يشعر بها وهو جالس في المقهى، مع جريدته «نصف كأسه فارغ والشمس تملأ نصفها الثاني»، وتذكّره بالحرية التي ينعم بها والتي يعبّر عنها درويش بقوله: «كم أنت حرّ أيها المنسي في المقهى فلا أحد يرى أثر الكمنجة فيك ولا أحد يحملق في حضورك أو غيابك، أو يدقق في ضبابك إن نظرت إلى فتاة وانكسرت أمامها..»

تدغدغ تلك الأشعار حفيز وتحرّك ما بداخله غير أنّ أثر الكلمات مهما كان قويّا، لا يكفي أحيانا لطيّ الصفحات، خاصة عندما يكون الجسد والروح مجروحين.. لكن حفيز يصرّ على الإقلاع ليهدي المشاهدين لوحة فنية متميزة ينعتق فيها من مكبّلات جسده ويجنّح مثل طائر البطرس المنتشي باسترداد حريته، فيعزق الجو شمالا يمينا، ثم يلامس الموجات المتلاطمة ويستعرض أجنحته رغم أنف الشمس والرياح..

 ولأنّ الحرية لا يمكن أن تقتصر على حرية الجسد، ينزع حفيز ثوب طائر البطرس ليرتدي جبّة الصوفي الذي يبحث عن غذائه الروحي، فيضع الجمهور مرّة أخرى أمام لوحة كوريغرافية معبّرة يحاكي فيها حركات الدراويش الراقصين الذين يدورون حول أنفسهم بحثا عن صفاء روحي يقربهم من الإله.. واللافت للنظر أن حفيز ضو وعائشة مبارك لم يسقطا في فخ الاستسهال، فاختياراتهما على مستوى الموسيقى والأضواء والحركات كلّها تدلّ على حسّ فني مرهف، حسّ فنانين انصهرا مع كلمات محمود درويش ليعبّرا بالحركات عن توقهما لأفق جديد ينبع حياة ويفيض ايقاعا..

شيراز بن مراد

مصلح كريّم (مخرج فيلم «باب الفلة»): كنا نعيش في ماخور تشرف عليه امرأة من أسوأ من أنجبت تونس

يُستهل فيلم «باب الفلة» بمشهد مقبرة يوحي بالموت وبالفجيعة في إيحاء إلى الوضعية التي كانت عليها البلاد أيام حكم بن علي... ومن خلال قصة درامية تتصاعد فيها الأحداث والجرائم والخيبات العاطفية، يزيح المخرج مصلح كريّم الستار عن مجتمع خلفي، حاول النظام البائد إخفاءه بشتى الوسائل والطرق، فكشف تعفن جراح مجتمع رزح تحت وطأة الجهل، مجتمع حوصرت فيه الثقافة وتلاشت فيه القيم.. ومن خلال نماذج اجتماعية جرفها تيار الانتهازية والجهل والعنف: شخصية رجل الدين الانتهازي (محمد المورالي) و«باربو» الحومة (فتحي الهداوي) ومجنونة الترجي (فاطمة بن سعيدان) والبسيكوبات (يونس الفالحي) ورجل الشعبة (منصف السويسي)، يرسم مصلح كريّم صورة لبلد متآكل ومنخرم بفعل عاهات ضربته في الصميم... بلد همّش فيه الفكر وطغت عليه نزعة الربح السريع حتى أضحى بمثابة صندوق المفاجآت الذي اذا تجرأت وفتحته فستصدم بها يعج به من كوارث وفواجع... 
حول التيمات التي طرحها الشريط والصعوبات التي اعترضته، كان لنا لقاء مع الخرج مصلح كريّم الذي شدّد على أهميّة الثقافة في مجتمعنا كدرع واق ضدّ كل الأخطار..

أول سؤال يتبادر للذهن هو هل إنّ سيناريو الفيلم مستوحى من أحداث حقيقية؟
كل أحداث الفيلم مستوحاة من الحقبة التي كنا نعيشها، فبطل الفيلم ـ علي بنور ـ يحاول افتكاك درة زروق من خطيبها أسوة ببن علي الذي افتك ليلى من زوجها... خذي أيضا فارس بلحسن في دور الصحفي الذي يريد القيام بتحقيق أيام النظام البائد، فعن أي صحافة حرّة يمكن أن نتحدث ، وقد أحكم عبد الوهاب عبد الله قبضته على الإعلام؟
ومن خلال هذا التحقيق الصحفي، ينزاح الستار، الستار الذي يخفي مصائب هذا البلد، من الجرائم إلى الطوق الأمني الذي كان مضروبا على البلاد، إلى الضغائن والأحقاد، إلى الدعارة، إلى «الصبّة» الى الغدر الى انعدام القيم، الى طغيان عقلية المال السهل واكتساح ثقافة كرة القدم وتفشي الجهل في صفوف شبابنا..
ببساطة، سلط فيلم «باب الفلة» الكاميرا الكاشفة على المجتمع الذي نعيش فيه وعلى قضاياه وعلى رأسها الثقافة التي تمثل في نظري حجر الزاوية الذي يجب أن نوليه أهمية قصوى بعد أن تفشى الجهل وأضحت التفاهات في صدارة اهتمام التونسيين.
وهل لهذا السبب اخترت ان يكون أوّل مشهد من فيلم «باب الفلة» في مقبرة؟
بالضبط! ينفتح الفيلم على مشهد صوّر في مقبرة وهي الصورة التي كان يوحي بها البلد أيام حكم بن علي: شعب ميت، حراكه محدود وتطغى عليه العتمة.. وحتى البطل جياني (علي بنور) الذي  يمثّل المثقف الذي يخالف القطيع، فإنّ مصيره أسود وأنهى حياته في ملجأ للعجّز.
ولقد حاولت أن أعكس ـ سينمائيا ـ مرآة على مجتمع يزعم «الامتياز» و«التفوق» ـ وفق عقيدة حاول بن علي تسويقها ـ فإذا المرآة تكشف «عراء ذواتنا» والعاهات التي أصبنا بها: صحافة ميتة، جهل يضرب أطنابه، كبت، قيم مفقودة وأخلاق مهدورة، تعليم منهار وفكر محاصر وثقافة مرهونة... وهذه «تونس الامتياز» التي كنا نعيش فيها...
انتقلت مشاهد الفيلم بين دار جياني المثقف وقاعة السينما والمدينة العتيقة والماخور، فماهي رمزية الماخور؟
ببساطة لأنّنا كنا نعيش في ماخور تشرف عليه «امرأة» من أسوأ من أنجبت تونس.. وهنا أذكّر بأنّ سيناريو الفيلم كان جاهزا منذ سنة 1997، ولهذا تعطل ولم ير النور الا بعد 17 سنة... في «الماخور» الذي كنا نعيش تبخرت المرجعيات ووضعت الكاريزما التي كان يتمتع بها بورقيبة إلى جانب لتصعد مكانه مجموعة من السراق والشطار على رأس البلاد...
وبصفة أعم، لو أزلنا اللهجة التونسية من الفيلم، لأمكن لنا تعميم المواضيع المطروحة على بقية العالم العربي: كبت وجرائم ونهب للثروات وعنف وجهل متفش وثقافة ميتة وصحافة محاصرة..
هناك مشهد مؤثر جدّا في الفيلم، وهو المشهد الذي تقتل فيه إحدى نساء الماخور، فلم هذه البشاعة؟
أوّلا، أوّد أن ألاحظ أنّ موعد الجريمة كان على الساعة السابعة، (السابع من نوفمبر وهو الوقت الذي دقت فيه ساعة الجريمة التي حلّت بالبلد)، فهل هناك أبشع من هذه الجريمة؟ جريمة وأد بلاد بأكملها وارتهان الصحافة وتدجين المثقف ومحاصرة الشعب في حرياته.. زد على كل ذلك مصيبة اسمها «ليلى» كانت تتولى قيادة البلد... والمرأة التي قتلت في المشهد الذي ذكرته تحمل اسم «ليلى».
أبو القاسم الشابي كان حاضرا أيضا في فيلمك، فما هي الدلالة التي قصدتموها؟ 
افتتحت الفيلم بقصيد «النبي المجهول» لأبي القاسم الشابى والذي يقول مطلعه: 
أيها الشعب ليتني كنت حطابا...  فأهوي على الجذوع بفأسي
ليتني كنت كالسيول اذا ما سالت... تهد القبور رمسا برمس
ليتني كنت كالرياح، فأطوي... ورود الربيع من كل قنس
ليت لي قوة العواصف، يا شعبي... فألقي إليك ثورة نفسي
 وهي الصرخة التي أطلقها الشابي منذ الثلاثينات غير أنّنا لم نسمعها وذهبنا في اتجاه مجتمع فقد فيه الأمل وأجهضت فيه الأحلام.. وأعتقد أنّ الفيلم يمثل دعوة إلى فتح النقاش حول عدد من القضايا التي تشغل المجتمع وعلى رأسها الثقافة.
وهنا أتساءل عن الدور الذي لعبه المجلس التاسيسي وكذلك المعارضة بعد الثورة، هل دافعوا  عن الثقافة؟ هل دافعوا عن الفكر؟ هل يعقل أن تمثل الثقافة 0.038 من ميزانية الدولة؟!
ماهي أبرز الصعوبات التي عرفها الفيلم؟
الفيلم تطلب 17 سنة لكي أنجزه وهذا ـ وحده ـ كفيل بأن يبرز حجم الصعوبات التي اعترضته... وقد انطلق تصويره يوم 13 جانفي 2011 بمدينة البطان في ظروف حرجة بسبب حظر الجولان، ومع تطور الأحداث وحرق القباضة والبلدية اضطررنا الى إيقاف التصوير، ولم نعد مجددا الى العمل إلاّ في شهر سبتمبر، وفي الأثناء تغيّر البطل الرئيسي ووقع الاختيار على الممثل علي بنور الذي وجدت فيه عدة خصال.
وتطلب العمل على شخصية علي بنور ـ الذي يظهر كهلا ثمّ عجوزا ـ مجهودات كبرى منها تقنيات «تشييب» الجلدة حتى يبدو مظهره متناسبا مع سنه.. هذا كلّه فضلا عن المشاكل التقنية والمادية التي واجهناها..
وهل تمت صنصرة بعض المشاهد؟
إحقاقا لا، لم يتعرض الفيلم للصنصرة وربّما لو بقي نظام بن علي في الحكم لعرف الشريط مشاكل أخرى..
كيف عشت التهديدات التي استهدفت الفنانين بعد الثورة؟
لن تخيفنا التهديدات مهما فعلوا لكن أعتقد أنّ المسألة فيها قدر من المغالطة، فقد تم توظيف الدين من قبل بعض السياسيين لخدمة مصالح انتخابية بحتة كما وقع غضّ النظر عمّن أدخلوا السلاح إلى البلاد لمآرب أخرى... ونحن الآن بصدد معايشة أشياء دخيلة على مجتمعنا وعلى ديننا وقيمه السمحة... مهما يكن من أمر، على الفنان ألاّ يخاف وأن يواصل صموده في وجه السماسرة وتجّار الدّين...
تبدي اهتماما خاصا بالشخصيات المهمشة؟
صحيح، لي إعجاب بالشخصيات التي تعيش على الهامش وتلعب أدوار نضالية هامة في نفس الوقت، فخذي مثلا الصحفي الفاهم بوكدوس أو الصحفية زكية الضيفاوي التي غطت أحداث الحوض المنجمي.. إنّي أكنّ تقديرا كبيرا لهذه المرأة التي صمدت أمام كل التحرشات والانتهاكات التي تعرضت لها بسبب عملها...
وفي هذا السياق، أنجزت زوجتي خديجة المكشر فيلما وثائقيا حول زكية الضيفاوي، تلك المرأة الشجاعة التي واجهت آلة بن علي الأمنية، وكذلك حول فادية حمدي المرأة التي سجنت لأنّها قامت بما يمليه عليها واجبها.. وهي نماذج من المجتمع منسية ومهمشة مع الأسف.
أهديت الفيلم إلى روح المخرج احمد بهاء الدين عطية، فما سرّ هذا الإهداء؟
هو أقل شيء يمكن أن اقدمه للمخرج أحمد بهاء الدين عطية الذي اعتبره في مقام أبي.. لقد أهديت الفيلم إلى روح والدي الطيب كريّم وإلى روح سيد أحمد، هذا الرجل الذي صنع ربيع السينما التونسية وهاهو ابنه اليوم حبيب عطية يواصل المسيرة...
كلمة أخيرة..
أود أن أوجه تحية للمنتجة خديجة المكشر التي قامت بعمل جبار وأكدت قدرة حقيقية على العمل الإنتاجي بكل ما يتضمنه من مشاق وعراقيل... وإذا لم أخطئ فهي أوّل تونسية تنتج شريطا بهذا الحجم وهذه الكلفة (مليار و100 مليون من مليماتنا)...


• شيراز بن مراد

فيلم «الشلاّط» لكوثر بن هنية: خنجر سينمائي يعرّي العقد و«التابوهات» والتهميش

من واقعة «الشلاّط»، تلك القضية التي هزّت الرأي العام التونسي سنة 2003 بعد إقدام أحد المجهولين على «تشليط» مؤخرة 11 امرأة تونسية، انطلقت المخرجة كوثر بن هنية لتغرز كاميراها ـ مشرطها في الواقع التونسي في محاولة لكشف نوعيّة الجرح الذي يشكو منه الوطن، وذلك من خلال فيلم يمزج بين الوثائقي والروائي ويطرح سؤالا جوهريا: «ما هو المجتمع الذي يمكن أن يفرز أو يصنع «الشلاّط» ذاك المجرم الذي يجرؤ على الاعتداء على الحرمات الجسدية لنساء كنّ بصدد المرور من الشارع من باب الصدفة لا غير؟» 
ومن باب الجرح الغائر والغادر، حاولت كوثر بن هنية ملامسة «الوجيعة التونسية» فكان أن إنتقلت الى حي الزهور، أحد الأحياء الشعبية المتاخمة للعاصمة بحثا عن «الشلاّط» وقد قيل آنذاك إنّه جلال الدريدي وهو من أبناء المنطقة... فصورت بن هنية الشارع التونسي والوجوه التونسية والمواقف والشهادات المتضاربة بين موافق على «تشليط» مؤخرة النساء «لأنهنّ غير مستورات» وبين رافض لهذا العمل الإجرامي... وذهبت المخرجة إلى أبعد من ذلك لتقترب من «نبض الشارع التونسي» بكل ما فيه من عنف وكذب وممنوعات.
ثالوث العنف والكذب والممنوعات
 وقد ارتكز فيلم «الشلاط»، وهو من إنتاج شركة سيني تيلي فيلم، على هذا الثالوث المميّز للمجتمع التونسي: عنف + كذب + ممنوعات ليؤكد أوّلا أنّ عملية البحث عن الحقيقة ليست بالعمل البسيط وليس أدّل على ذلك أنّنا ورغم مرور 10 سنوات على حادثة «التشليط»، مازلنا لا نعرف حقّا من يقف وراء هذه الواقعة، وليبرز بما لا يدع مجالا للشك خصوصيات موجعة من التركيبة المجتمعية التونسية، فـ«الكذب» حالة وتقليد تونسي لا يمكن نكرانه، و«العنف» آفة متأصلة في تعاملاتنا و«المنع» عقلية توارثناها عن الجدود، فالتعبير الحر ممنوع والاختلاف محظور والخروج عن القالب الاجتماعي مرفوض وكذا كذا محرم وقائمة الممنوعات طويلة جدا لا يمكن حصرها ولا وضع حدّ لها...
شباب لم تبتسم له شمس الحياة
في «الشلاط»، لم تسع كوثر بن هنية الى كشف تفاصيل من الواقعة الإجرامية الغامضة التي شهدتها بعض شوارع تونس سنة 2003، بل تجاوزتها لتروي بطريقتها المهمشين منا، وكم رقعتهم ممتدة! المهمشين من شبابنا ومن كبارنا، أبناء تونس الذين لم تبتسم لهم شمس الحياة بل نهشتهم الحاجة وأنهكهم الضيم ودمرهم التهميش... وفي هذا السياق، نستحضر مقطعا من الفيلم أقرب الى السريالية يظهر فيه شاب دأب على تنظيف القبور وهو بصدد آداء أنغام سمفونية بمقبرة، وهذا المشهد يعكس وحده المفارقة الكبرى التي تعيش على وقعها نسبة من الشباب التونسي، فهذا الشاب مكانه الطبيعي مسرح الفن والإبداع لا مسرح الموت والنسيان، شأنه في ذلك شأن الآلاف من الطاقات التي لم يحالفها الحظ ولم تُفتح في وجهها ثنايا الأمل.
سوبرانو يغني في مقبرة، فتاة تنتحر بعد أن سرقت حمالة صدر، شباب تائه بين الدين والحداثة، تونسيون يحاولون فرض ذواتهم رغم التهميش والإقصاء... هي بعض من الوجوه التي حاول فيلم الشلاط تصويرها ليرسم «بوزل» تونسيا خاصا تحضر فيه الطيبة والحلم والأمل وتشوبه أيضا الانحرافات والسلوك الإجرامي ...
وقد بدا لنا أنّ كوثر بن هنية سعت إلى  «أنسنة» الفئات الاجتماعية التي تعاني من الأحكام المسبقة بسبب حلقة  التهميش التي فرضت عليها فصوّرت طيبتهم وتونسيتهم وأحلامهم البسيطة مزيحة الرداء الأسود الذي يحيط بهم ويزيد من انغلاقهم على أنفسهم.
في عمق المخيال الجنسي
وبنبرات من الكوميديا السوداء، تتوغل المخرجة في المخيال الشعبي الجنسي، فتنقل شهادات ومواقف تقول الكثير عن علاقة الرجل بالمرأة وما يحف بها من محاذير وحريّات في آن.. ومن بين ما يصوّر الفيلم، الدمية الجنسية التي تباع في عدد من الأسواق التونسية وكذلك «محرار العذرية» الذي يلتجئ إليه بعض الرجال لمعرفة إذا ما كانت شريكة حياتهم المستقبلية عذراء أم لا؟ ومن خلال هذه الأمثلة، تعكس المخرجة كمّ العقد والمخاوف والمسكوت عنه والتابوهات التي تغذي «الشخصية التونسية» وترفع الغطاء عن القدر التونسي المضغوط لتغوص بنا في عمق جرح تعفن بفعل التهميش والإقصاء حتى أصبحت فئات واسعة من الشباب تعيش في انتظار «حرقة» إلى بلاد الطليان، أو في ترقب معجزة لن تأتي أبدا.. 
كما غرز الشلاط مشرطه في مؤخرة 11 إمرأة تونسية، عملت المخرجة كوثر بن هنية على دسّ خنجر سينمائي حاد في نفوسنا.. فأسال فيلمها دما أسودا مثخنا بأوجاع مجتمع ترهل واهترأ بفعل السياسات التي وأدت الأحلام وهمشت الطاقات حتى أضحى البلد أشبه «بفبريكة» لصنع المهمشين والمتعبين على الأرض.
شيراز بن مراد

السبت، 19 أبريل 2014

عرض «وجوه وألوان برية» لحسين مصدق: وراء الألوان.. شمس بازغة وأحزان


هل يمكن تجميع هموم العالم في وجه إنسان؟ هل يمكن أن تختزل تقاسيم وجه امرأة مآسي السياسة أو أحلام الطفولة ؟ هذه بعض الأسئلة التي يمكن أن تجتاح ذهنك وأنت تجوب معرض «وجوه وألوان برية» للرسام التشكيلي حسين مصدق والذي تحتضنه دار الثقافة ابن رشيق إلى غاية يوم 18 أفريل الجاري.

فقد اختار مصدق أن تكون الوجوه محورا أساسيا لمعرضه، وجوها صامتة موصدة كأبواب مدينة عتيقة تخلى عنها أهلها فصرخت وحدتها ويأسها ووجوها فتحت مصراعيها على حقول بيضاء وبرتقالية وخضراء فعبرت عما يمكن أن يرتع بداخل الإنسان من أحاسيس... ففاضت إحدى اللوحات بحزن عروس أخفت من هول حزنها حمرة الشمس البازغة... وثارت في لوحة أخرى، امرأة أرجوانية على العالم، فتفجرت كالبركان الذي لا يعترف بالحدود..

وفي لوحة «الجدار» تلاصقت وجوه برتقالية لتذكرنا بالجدار العازل الذي أقامته إسرائيل على أرض فلسطين، فيما جسمت لوحة «بورتريه2» قوّة ورقة آلهة يونانية قديمة أغمض الكرى أجفانها، إلى غير ذلك من اللوحات التي تنشد التواصل مع ماهو بالداخل، مع ما هو مخفي وراء الأقنعة... وقد صرح لنا حسين مصدق أنّه بقدر ما تشده تفاصيل وجوه الشخوص التي يرسمها يهمه ان يلامس شذرات مما هو موجود خلف هذه الأقنعة قائلا: «الناس نشوفهم بطريقتي الخاصة، ألغي جماليتهم الظاهرة لكل أغوص في ما يمكن أن يعتمل داخلهم من أحاسيس ومن أحلام»...

وإلى جانب المقترح الفني الذي قدمه حسين مصدّق في معرض «وجوه وألوان برية» تتصاعد من لوحاته نغمات شعرية تدعو المشاهد التي التوقف عند رصيف ذاكرة مفقودة، الى إلقاء نظرة على شارع خلفي ينبض إيقاعا متروكا، الى الانصات الى عطش امرأة لحب صيفي محته الأيام... وهي مشاهد توحيها لوحات مصدق كما يوحي بها شعر محمود درويش عندما يتحدث عن المدن الضائعة وعن الألوان القرمزية وزرقة البحر البعيد بحثا عن قوس قزح يعقب العاصفة.

 شيراز بن مراد

الخميس، 17 أبريل 2014

في ضيافة «ناس الديكامرون» الكاتب علـي مصبـاح: نحـن واقـعـون فــي أسـر الكذبـة وعلينـا أن نهتـم بالأدب والفــنــون لنـرتـقـي بأنفسنـا

إستضاف نادي «ناس الديكامرون» الذي تحتضنه دار الثقافة ابن خلدون يوم الجمعة 21 مارس الكاتب التونسي المقيم بألمانيا علي مصباح.. وقد تولى كمال الرياحي المشرف على النادي تقديم الكاتب الذي وصفه بالمترجم الأول للفيلسوف نيتشه في العالم العربي، قائلا: «تبدو العلاقة بين المترجم والفيلسوف حالة صوفية وعشق غائر في العظم متجاوزة حاجة براجماتية لدار نشر وسعيا لنقل كتاب والتخلص منه. إنها حالة من الحلول والاستحضار أشبه باستحضار الأرواح بكل ما تعترض التجربة من مخاطر على النفس والجسد». وعدّد الرياحي اصدارات مصباح ومنها طريق الصحراء (2006) وحارة السفهاء (2013) فضلا عن مجموعة الكتب التي ترجمها لنيتشه من الألمانية إلى العربية ومن ضمنها «هذا هوالإنسان» (2006) و«هكذا تكلم زرادشت» (2007) قبل أن يستدرج الضيف في حوار حول علاقته مع نيتشه والرواية والأدب والرحلة..

حبيت نيتشه ينطق بلغتي، حبيت انطقو بالعربية

ورغم العدد الهائل للكتب التي ترجمها علي مصباح للفيلسوف الألماني نيتشه، فقد اعترف بأنّه ليس نيتشاويا ولا ينبغي له أن يكون كذلك.. وقال مصباح إنّ الكلام عن نيتشه في حدّ ذاته تناقض إذ أنّ هذا الفيلسوف كان يتوجه لتلامذته قائلا: «انفضوا عني ولا تعودوا الا إذا تنكرتم لي».
ووصف مصباح علاقتة بنيتشه بالخاصة «فكأنّنا زوجان كبيران في السن... أهجره في بعض الأحيان وفي أخرى أستعيض عنه بكاتب آخر»... ولتلخيص فكرته قال مصباح: «أسوأ مكافأة للأستاذ هي وفاء التلميذ لأستاذه».
وتحدث علي مصباح عن تجربة الترجمة مع عدد من مؤلفات نيتشه قائلا: «حبيت نيتشه ينطق بلغتي.. حبيت انطقو بالعربية». وذكر أنّ كتاب «الانجيل الخامس» لبيتر سلوتردايك اعجبه وخلّصه من عقدة الخوف ليقدم ترجمة أول عمل لنيتشه، مضيفا أن الترجمة الفرنسية لكتاب «هذا هو الإنسان» لم تكن جيدة وهو ما دفعه إلى الدخول في هذه المغامرة اللغوية، وأمّا عن «هكذا تحدث زرادشت» والذي استغرقت ترجمته 4 سنوات، فذكر أنّ المغامرة أرهقته كثيرا فأحيانا يقف ويرقص جراء متعة الترجمة وأحيانا أخرى يقف على حافة البكاء الى أن يعثر على الكلمة الأمثل لتعريب نيتشه.
ونفى علي مصباح أن يكون نيتشه أصدر كتابا يحمل عنوان «إرادة القوة» مبينا أنّ أخت نيتشه تلاعبت بأجزاء من النصوص لتصدر كتابا يتلاءم مع  الإديولوجيا القومية الاشتراكية.

مازلنا نعاني من عاهة «اللحاق بالآخر»

واعتبر الكاتب علي مصباح أنّ الغرب لا يعنيه ان تتطور المجتمعات العربية وأمّا نحن فمازلنا نعاني من عاهة «اللحاق بالآخر» معلقا أنّه ضدّ فكرة اللحاق وأنّنا سنتطور يوم نعيد الاعتبار للإنسان كقيمة في حد ذاته.. ونادى علي مصباح بالاهتمام بالآداب والفنون لكي نبني ذواتنا.. وفي هذا الصدد تساءل الكاتب، عن أهمية الدستور الجديد قائلا إنّه حتى ولو تضمن قوانين تقدمية فما الفائدة منها اذا لم نول الإنسان قيمته  الحقيقية...
وأردف مصباح قائلا: «حتى سفاهة الحياة جديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار لأنّ فيها أخذا بعين الاعتبار للإنسان».

يغريني الديناميت ليس لأنّي إرهابي

وبعبارة طريفة عبّر الأديب عن استيائه الشديد ممن يعتدون على اللغة والأدب قائلا: «يغريني الديناميت ليس لأني إرهابي» ومناديا بانشاء محاكم لمحاسبة المعتدين من أشباه مثقفين وكتاب ومترجمين... وفي هذا السياق تدخل آدم فتحي ليقول إنّ نيتشه انتظر «الرحمة المصباحية»، فالمترجم، ـ وفق آدم فتحي ـ هو الذي يجعل النص الذي يترجمه فاعلا في اللغة»، وأضاف أنه من المؤسف ان بعض الكتب القيمة ترجمت من قبل أناس من غير سادة اللغة.
واعترف علي مصباح أنّه ليس مستعدا لمقايضة الأدب بالحياة إذا طلب منه ذلك، فالأدب هو الرئة الثالثة التي يتنفس بها..

القرن 21 هو قرن نيتشه

وردّا على سؤال حول مكانة فكر نيتشه في الوقت الحاضر، ذكر علي مصباح أنّ القرن 21 هو قرن نيتشه بامتياز، فقد نادي بتفكيك الأنظمة الفكرية وبالتنطع وبالتملص من كل السلط والمدارس والمنظومات الفكرية المتأسسة.. داعيا الإنسان لكي يفكر بذاته ومبرزا قيمة الفرد وأهمية استقلاله عن القطيع.. وقال مصباح ليست أفكار نيتشه هي التي يمكن أن تطورنا بل هي منهجيته في التعامل مع المشاكل المطروحة.
وعلّق الكاتب «نحن متأخرون،  لا على الغرب، بل على أنفسنا، على القرن الثالث هجري، عن التوحيدي وأبي نواس».
نحن واقعون في أسر الكذبة وتصديق الكذبة

وعن رواية «حارة السفهاء» التي أصدرها مؤخرا عن دار الجمل للنشر، والتي تدور وقائعها حول سقوط نظام بورقيبة وقصة بن علي مع الحكم، قال مصباح إنّه أراد تفكيك المنظومة التي كانت قائمة بهدف «تطليع خنارها» مبينا أنّنا «واقعون في أسر الكذبة وتصديق الكذبة».. فبن علي، ـ حسب مصباح ـ كان مجرد «باندي» وشخصا تافها وحتى وصف الديكتاتور فلا يستحقه! وبيّن مصباح أنّ أكثر ما أزعجه هم الناس الذين أحاطوا ببن علي و«صنعوه»، ووصف كتاب «حارة السفهاء» بمؤلف «المسخرة على المسخرة».

عوض ان نبكي على الواقع، علينا أن نضحك منه!

وعبّر علي مصباح عن تفاؤله قائلا إنّه عوض أن نبكي على الواقع، علينا أن نضحك منه وإنّ كتاب «حارة السفهاء» يقترح على القارئ أن يقطع جزءا من الطريق لكي يضحك من واقعه...
وقال مصباح إنّه يتضايق من المناحات وممن يرمون المنديل سريعا مضيفا أنّنا «خسرنا المعركة ولم نخسر الحرب».. وأشاد المحاضر بخصال الشعب التونسي قائلا في هذا الصدد: «هذا الشعب طول الوقت ينكت على بن علي... عندنا شعب رهدان، كذاب، منافق، فدلاك وله حس النكتة» وهو ما حمانا، في نظره، من السقوط في فخ الحروب والتقاتل.

في آسيا: الأطفال والنساء يؤثثون المشاهد أكثر من غيرهم...

وفي الجزء الأخير من اللقاء تطرق المترجم الى رحلاته الى آسيا حيث أنّه دأب في السنوات الأخيرة على زيارتها، وقال إنّه أحب مدينة بورما وإنّ أكبر صدمة شعر بها في حياته كانت في مدينة كالكوتا الهندية حيث يحتد الفقر وينام البعض فوق الأشجار وعلى الأرصفة وحيث اشتم لأول مرة في  حياته رائحة شواء اللحم الآدمي قبل أن ينثر رماد الموتى في نهر الغانج..
وقال مصباح في صورة توصيفية للمشهد الأسيوي إنّ الأطفال والنساء يؤثثون المشهد اكثر من غيرهم وإنّه يشعر بتقدير كبير للمرأة الآسيوية التي تشتغل في كل المجالات من خضارة وجزارة وهي حاضرة رغم تسلط الرجل.
كما ذكر مصباح أنّ آسيا تعيش على وقع وحدة الأضداد خلافا للعالم الغربي الذي يعيش على وقع صراع الثقافات  أي على وقع فلسفتين ورؤيتين مختلفتين للعالم والحياة: واحدة قائمة على وحدة المتناقضات وانتفاء ثنائيات الخير/الشر، السماء/الأرض، الله/الشيطان، ,الأخرى (حضارتنا الغربية) تقوم على الثنائيات ومبدأ صراع المتناقضات

شعرت بالغربة يوم 14 جانفي ويوم اغتيال بلعيد

وحول مفهوم الغربة بالنسبة إلى مصباح وهو الذي يقيم بمدينة برلين الألمانية منذ سنة 1989، أكد أنّه يشعر أحيانا بالغربة قائلا: «حسيت بالغربة نهار 14 جانفي 2011 ونهار اغتيال شكري بلعيد.. شعور فظيع بالغربة».

شيراز بن مراد