الأربعاء، 10 ديسمبر 2014

معرض «الغولة» للناصر خمير: «لو فجّرنا كنوز ثقافتنا، لما أمست ديارنا ديار حرب»

من منّا في طفولته، لم يستمع الى حكايات الغولة المخيفة التي كانت ترويها الجدّات والأمّهات لتحذير اطفالهنّ من هذا السلوك أو ذاك؟ لكن ما هو مصير «الغولة» اليوم وأين اختفى هذا الإرث اللغوي الذي عمّر خيال أجيال وأجيال من الأطفال التونسيين؟
حول «أسطورة الغولة»، قدّم الفنان الناصر خمير معرضا احتضنته قاعة الأخبار بالعاصمة طول مدّة أيام قرطاج السينمائيّة. ويطرح المعرض الذي ينقل تجربة الناصر خمير مع المخيال التونسي، العلاقة الموجودة لدينا بين الموروث الشفوي والصورة، بين العادات والحداثة.
ينفتح المعرض على لافتة تتضمن مقولة لحمادي الصيد جاء فيها ما يلي: «متى نفهم انّ الخلاص من كل أزماتنا يتوقّف على تجديد ثقافتنا» في اشارة لضرورة الوعي بثراء مخزوننا الحضاري وبأهمية مجادلته وتجديده لأنه يشكّل هويتنا وأحد أبرز مقوّمات ذواتنا.
ويشمل معرض الغولة مجموعة من الصور العملاقة التي تجسّد «الغولة» في تجلياتها المختلفة، فهذه «غولة» خطفت طفلا صغيرا، وهذه «غولة» التهمت عددا من الدجاج والخرفان، وهي لوحات شارك في رسمها بعض أفراد عائلة الناصر خمير سنة 1974 بمنزله الكائن بجهة قربة.
وسعى خمير من خلال هذه التجربة -مثلما ذكره رسام القرافيك محي الدين لبّاد- الى تفجير الكنوز المخبّأة فينا: كنوز الحضارة العربيّة الاسلاميّة المختزنة فضلا عن تفجير ملكة الخيال والابداع التي تتميّز بها هذه الحضارة، والتي طمسها مجتمع الاستهلاك وعاداته المكتسبة عن الثقافات المستوردة. 
ويرى خمير ان اللقاح الحقيقي لمجتمعاتنا يكمن في معرفة حقيقية للتراث لأنّه الأداة التي تُعين على بناء الذات والوصول الى مرتبة تجعلك تتفاعل مع الانسانيّة كاملة ولاتعيش كالقطيع.. فلو رُبّي اطفالنا بالحسّ والمذاق والفكر لما تردينا الى هذا الحضيض وما أمست ديارنا ديار حرب.
وتكشف الرّسوم والمخطوطات التي عرضها خمير كيف يمكن ان يكون الإرث والتقاليد منطلقا للابداع، وكيف يمكنها ان تقدّم لأبنائنا ثقافة مرتبطة بماضينا مما يجعلنا نتجنّب موتا انتروبولوجيا مؤكدا قد تنتج عنه هويات قاتلة او قد يدفع نحو اهمال هذا الارث. 
فعندما يكون هناك موت أنثروبولوجي، يقول خمير، ينقسم المجتمع إلى جزئين: أولئك الذين لا يكترثون للأمر معتبرين ان إندثار الموروث لن يغير في الأمر شيئا، وهذا يُعدّ في نظره إجراما، وفي المقابل هناك شق ثان يدعو الى العودة الى الجذور ولكنه يقتصر على الجانب الديني مع إلغاء تام للموروث الثقافي، وهو ما يزرع ثقافة الموت. وبين هذا وذاك، هناك عمل غيبناه ويتمثل في تجديد موروثنا الحضاري حتى بتنا نعيش بين فكي ثقافة الموت ومجتمع الاستهلاك. ويواصل خمير: «لنكن صريحين مع أنفسنا: ليس هناك حرية دون إبداع حقيقي».
والى جانب اللوحات، تضمّن المعرض عددا من الكتب التي نشرها الناصر خمير ومنها كتاب «حكاية الغولة» الذي صدر سنة 1975 عن دار ماسبيرو للنشر بفرنسا، ثم كتابه «شمس بين حيطين» الذي ضمّ مجموعة من الروايات التي روتها له والدته «أم الخير»، وكتاب «شهرزاد» و«حكمة الاسلام» وغيرها من الكتب الموجهة للأطفال.
ونعتقد انّه كان حرّيا بوزارة الثقافة ان تُبقي على هذا المعرض لفترة أطول من أسبوع، فمجهود ابداعي من هذا القبيل كان يمكن ان يدوم أكثر في «الحبيب بورقيبة» الشارع الرئيسي للعاصمة الذي غابت عنه الثقافة ونخرته المقاهي ومحلات الأكلة السّريعة.

شيراز بن مراد

في الدورة 25 لأيّام قرطاج السينمائيّة: تتويج السينمائي الناصر خمير بالتانيت الذهبي

توّج السينمائي الناصر خمير في الحفل الاختتامي للدورة 25 لأيام قرطاج السينمائيّة بالتانيت الذهبي تكريما لمسيرته السينمائية الغزيرة بالأعمال والتي تعدّ قرابة الـ15 فيلما منها «الهائمون في الصحراء» (1984) و«طوق الحمامة المفقود» (1991) و«بابا عزيز» (2005) و«شهرزاد أو الكلام ضدّ الموت» (2011) و«البحث عن الشيخ محيي الدين» (2012) و«من أين نبدأ؟» (2014).
واعتبر المستشار الفنّي للمهرجان اقبال زليلة ان في تكريم الناصر خمير مصالحة مع ذواتنا، حيث يمكننا اختزال سينما خمير في تلك اللقطة من فيلمه «بابا عزيز» حيث نرى الأمير باحثا عن صورة لروحه في انعكاسات الماء، وفي هذه الصورة دعوة لإعادة التفكير في تموقعنا في العالم وضرورة التصالح مع ذواتنا.
إذ يكمن موطن ضعف العالم العربي، وفق نظرة خمير، في انعدام تأصله في ميثولوجيا ينهل منها، ممّا يحدث شرخا بين الماضي والحاضر ويدفع بالمجتمعات العربية نحو نمط حياة يقوم علي الاستهلاك بعيدا عما يعج به مخزونها الحضاري.
وعادة ما تطرح أفلام الناصر خمير تيمات وقضايا ذات علاقة بالحضارة العربية، فيسائل المخرج معاني اللغة العربية وجماليتها في فيلم «رفقة اندري ميكال»، ويُبحر مع المعجم الحبي في «ياسمينة واسماء الحب الستون»، وهو فيلم يرسم انحدار الأوطان العربية في منعرجات الفراغ وتهميش الإرث العربي الإسلامي وذلك منذ سقوط قرطبة.
أما فيلم «بابا عزيز» فيصوّر حالة التيه والضياع الروحي التي أصابت العرب، بينما يقتفي خمير في فيلم «البحث عن الشيخ محيي الدين» أثر واحد من أهم أعلام التصوّف الإسلامي وهو الشيخ محيي الدين ابن العربي (1164 ـ 1240) الذي ارتقى بحبّ الآخرين الى منزلة الدين.
ويقول خمير: «منذ أوّل فيلم لي وإلى غاية اليوم، اخترت العمل على الثوابت التي تقوم عليها سماؤنا حضاريا، كلّ أعمالي تبحث عن كلاسيكية فنية وجمالية لأنّني أعتقد أن بناء ما يشابهنا يستدعي منا الرجوع الى الثوابت. همي يتركز على بناء هذه الثوابت بالصورة، فهذا غير موجود. الصورة هي تكوين حضور آني يمسّ كل إنسان في أيّ مكان، هذه هي الحداثة، أي أن تعطي الآخر المختلف ادوات تواصل من منطلق المشترك الإنساني وأن تكتبه بلغتك وأدواتك ومراجعك».
وروى خمير خلال تكريمه في المسرح البلدي قصة الفداوي الذي كان يجلس في مدخل المدينة العتيقة ليحكي قصصا من الماضي التليد، وبعد مرور سنين، سأله خمير لماذا تواصل قصّ نفس الروايات، فأجابه الفداوي:«أواصل القصّ حتى لا يُغيرني العالم». وهي حكاية تكشف مغزى التمشي الفني للناصر خمير سواء كان ذلك في السينما او في الرسم أو في النحت أو في الكتابة.
شيراز بن مراد
تصوير: أيمن الزناقي

في "مرّ وصبر": السهيلي يصوّر الشبق والإحباط والوجيعة في بدائيتها الأولى

بعيدا عن النهايات الهوليودية وعن الانتصارات السينمائية السخيفة، رسم المخرج نصر الدين السهيلي في فيلمه الجديد «مرّ وصبر» والذي عرض في إطار الدورة 25 لأيام قرطاج السينمائية، مشهدا سينمائيا موسوما بندوب الحياة وبجراحها الصغيرة كما الكبيرة.
ففي "وكالة" بأحد الأحياء الشعبية، تعيش صالحة النصراوي وابنها المعاق وطليقها منير الذي طرد من الجيش (عاطف بن حسين) والكفيف توفيق الغربي والمجنونة نجوى ميلاد والصبّاغ محمد علي دمّق. في هذا الفضاء الضيق، تزدحم الحياة بأوجاعها اليومية قبل أن تحلّ ساكنة جديدة، وهي طالبة لم تتمكن من التحصل على مبيت جامعي (مريم الصياح)، تأتي لتعزّز آلام هذا الفضاء بآلام جديدة وفقا لأقدار لا يعلم بخفاياها إلّا الغيب.
 ومن خلال هذه العيّنة من الشخصيات، يحاول نصر الدين السهيلي رصد ملامح "فوضى انسانية" يُستعصى فهم أسرارها، فهذه صالحة النصراوي تضطر للرقص في ملهى ليلي لتُعيل ابنها الصغير، وهذا عاطف بن حسين يبيع جسده لصديقه بلبل (إبراهيم زروق) لتوفير شئ من المال، وهذه براءة الطالبة مريم الصيّاح تتدعثر في عالم غريب الأطوار.
 ويدفع المخرج بالمتفرجين الى قلب العبثية، عندما يصوّر قصة الحب المستحيلة التي جمعت منير (عاطف بن حسين) بـ (مريم الصيّاح)، فكيف لقصة حبهما أن تنجح وهما محاصران ماديا ومحاطان ببحر من المشاكل والعوائق؟ وكيف لهما أن يحبّا بعضهما في هذا الزمن الوغد؟
بحسه الثائر الذي يرفض المهادنة، تمرد السهيلي على "المتفق عليه" فإقتلع القشور ليظهر النسغ الحي وما يعتمل في الدواخل من أحاسيس ضارية بالرغبة وبالعجز وبالألم، فصوّر الشبق والإحباط والوجيعة في بدائيتها الأولى، تلك التي لا تترك مجالا للنفاق او للخداع.
ويطرح السهيلي هكذا عدة قضايا اجتماعية ومنها قضية التهميش الذي يحكم على الفرد في مجتمعنا بأن يبقى أسير وضعيته الاجتماعية البائسة دون أيّة امكانية للتحسين، وقضية حرية الجسد والمواضعات الاجتماعية فضلا عن تيمة الحب، هذا الشعور المفعم الذي تصيبه ظروف الحياة القاسية بسهام المرارة.
 ويوجّه السهيلي عبر فيلمه رسائل عديدة الى من اختاروا تجاهل مشاكل البلاد وطمس أنّات العباد. فكيف للانسان أن يعيش بكرامة إن لم يتمكن من إيجاد مورد للرزق، وكيف له أن يكون مرتاح البال إذا كانت حرّيته الجسدية محدودة، وكيف له أن «ينجح» إذا لم تتوفر السّبل لذلك؟
ويمكن القول إن خيار «الوكالة» كفضاء للتصوير لم يكن اعتباطيا بما أنّه يرمز لهذا الفضاء المصغر الذي يجمع عيّنة من الحالات الاجتماعية التي تعاني في صمت بعد أن لفظها المجتمع، وقد بات الماخور والملهى الليلي يمثلان مُتنفسيها الأساسيين ومصدرا لرزقها.
 ولئن اتسمت شخصيات السهيلي بغياب الشاعرية بحكم ظروفها الاجتماعية القاهرة، فإن الفيلم طُبع في مجمله بشاعرية رقيقة بفضل طريقة تصويره وموسيقاه (أدار التصوير على بن عبد الله وأعدّ الموسيقى ربيع الزموري) حيث يلج المتفرج إلى عوالم السهيلي الخلفية من خلال الاضواء والالوان والالحان التي رافقت كل مشاهد الشريط وأعطته طابعه الخاص.
 كما لا يمكن ان نغفل على الأداء المميز للممثلين والذي أعطى للفيلم كل قوته، ونذكر بالخصوص أداء عاطف بن حسين الذي كان فجّا، محبّا، سكيرا، عنيفا، ضعيفا، ومزج بين طباع الرجل صعب المراس والرجل حبيس وضعيته، فضلا عن أداء صالحة النصراوي التي جمعت بين الرجولة والانوثة وقد ذابت فيها هذه الصفات لتُشكل هي الاخرى حالة اجتماعية صعبة المجاراة لما فيها من قوة ورقّة في نفس الوقت.
ونحن نغادر قاعة العرض، همست احدى الشابات لمرافقها قائلة إن مخرج الفيلم لا يمكن إلّا أن يكون «مجنونا» ليتطرق لمثل هذا الفوضى البشرية، وهي فوضى صوّرها نصر الدين السهيلي بالقدر المستحب من الجنون، جنون عالم فاقد للصواب، مضطرب، داكن الصباحات والامسيات، استبيحت حقوق ناسه حتى أضحت أبسط الامنيات مستحيلة التحقيق، كأن تحبّ، كأن تجد شغلا، كأن تداوي ابنك المريض، كأن تصعد الى أعلى الصومعة وتقول «أنا إنسان، أنا حرّ».
رقصة أقدار موجعة هي التي صوّرها نصر الدين السهيلي في «مرّ وصبر»، موجعة بما يُعانيه أبطاله من ضياع ومن إحساس بالعجز على الخروج من المتاهة التي وضعتهم فيها الحياة. رقصة ضارية عنيفة لم يسع فيها السهيلي الى تنميق الكيانات وتجميلها بقدر سعيه الى نقل صورة فجّة ومعبّرة لمعاناة من يجدون أنفسهم حبيسي حلبة إجتماعية ضيقة قوامها التهميش والحرمان.

شيراز بن مراد

السينمائي سهيل بيوض يسلط الأضواء على معاناة "أولاد دج دج"

«رانا توانسة، لكن ما جانا حدّ»... من الجمل المعبّرة التي جاءت في فيلم «دج دج ولد الشعب» للمخرج سهيل بيوض والذّي سلّط فيه الضوء على أحد الأحياء المهمشة بجهة جبل الجلود... تمرّ الأيّام وتأتي الانتخابات وتتغير الحكومات والرؤساء والوضع هو نفسه في «دج دج» هذا الحي المنسي الذي لا يبعد سوى 3 كيلومترات عن العاصمة تونس.
تتوالى الشهادات في هذا الفيلم الوثائقي القصير الذي انتجته جمعية «فورزا تونس» لتؤكد حالة التهميش التي يعاني منها الكبار كما الصغار... يتكلم أحدهم فيقول: «نحن منفيون! شعملنالكم؟» ثمّ يأخذ الكلمة شاب آخر فيقول: «رانا ولاد تونس، ماناش ولاد ليبيا ولا الجزائر»..
ويشتكي حي «دج دج» من غياب المرافق التي يمكن أن تضمن العيش الكريم فضلا عن نسبة البطالة المرتفعة وصعوبة أوضاع التلاميذ الذين يفتقرون الى ميدعات جديدة والبسة مختلفة ممّا يجعلهم يبقون على الهامش..
وتكلم مواطن آخر فقال: «أريد أن اقول للرئيس القادم: فيق بالزوالي الذي أصبح غير قادر على إطعام عائلته».
وتتجول كاميرا سهيل بيوض بين أنهج «دج دج»، فلا طريق معبد، ولا نادي ثقافي للأطفال ولا فضاءات خضراء وهكذا تظلّ أحياء عديدة محيطة بالعاصمة تعاني من الإقصاء الاجتماعي ومن التهميش الاقتصادي من غير أن يلتفت إليها أي مسؤول، فهل تتغير الأوضاع مع الحكومات القادمة أم ستظل تونس تهمش فئات من أبنائها؟
كلّنا أمل في أن يتفاعل المسؤولون مع أوضاع «دج دج» وأن تعي الحكومة القادمة بضرورة الاهتمام بقفة المواطن فضلا عن دعم الاستثمار وتوفير مواطن شغل مع إيلاء الجانب الثقافي الأهمية التي يستحقها..
فكيف للتونسيين أن يعيشوا بكرامة إذا لم يتوفر الشغل والمرافق الصحية والرياضية الى جانب المحيط الثقافي الذي يدفع نحو التسامح والانفتاح على الآخر وحب الحياة؟

شيراز بن مراد