الأربعاء، 22 أبريل 2015

الكاتب السوري الكردي جان دوست: النساء الكرد سطرن سطورا مشرقة لنساء العالم

«صرنا نذبح بعضنا البعض ذبح النعاج.. ما شاهدته في سوريا يدفعني الى أن أنسى الورد الذي في حديقتي واهتمّ بالشهيد الذي سقط في كل منعرج» هكذا تحدث الكاتب السوري الكردي جان دوست خلال استضافته في معرض الكتاب الذي أقيم في تونس في الفترة الفاصلة بين 27 مارس إلى 5 أفريل 2015.
فخلال لقاء جمعه بالروائي والصحفي كمال الرياحي، تحدث كاتب "عشيق المترجم" و"دم على المئذنة" و"مم وزين" و"ماهاباد" عن آخر إصداراته وعن علاقته باللغة العربية فضلا عن القضية الكردية والتراجيديا التي عاشتها مدينة كوباني مؤخرا. في بداية اللقاء، أثار دوست موضوع علاقته باللغة العربية قائلا انّ العربيّة ليست لغة غريبة عنه، بل العربيّة «أمّ بالرضاعة الفكرية».
كتبت بالكردية مناصرة لقومي الكرد
وبيّن دوست انّه حجب الكتابة بالعربية لخلفيات قومية ضيّقة قائلا: «أحببت انّ أناصر قومي الكرد في نوع من النضال القومي فكتب بالكردية غير انّ اللغة العربيّة تعود الى السطح دائما كما تجتمع المياه الجوفية في باطن الأرض وتنفجر في يوم ما.. كان لابدّ أن أزيل الاحتقان اللغوي داخل رأسي وأكتب بالعربية نصا أخفّف به ما أعانيه».
هنا سأله الكاتب كمال الرياحي إن كان يعتبر اللغة «أداة قتال العدو» بالمعنى المجازي ولا بالمعنى الحاف للكلمة، فقال دوست إنّ اللغة هي شكل من أشكال مقاومة اللغة المهيمنة مضيفا انّ اللغة العربية ليست لغة عدوة بل هي لغة الأنا الأعلى في سوريا مقارنة بالأنا السفلى. وبيّن دوست أنّ الأنا العليا هي أنا السلطة. 
هناك حالة عشق بيني وبين اللغة العربية
وأردف قائلا: «هناك حالة عشق بيني وبين اللغة العربية وأنا جزء من الجغرافيا العربيّة الواسعة».. وأضاف المتحدث انّ اللغة الكردية كانت مقموعة وممنوعة، وكان ممنوعا على التلاميذ في المدارس أن يلفظوا الكردية بينما هي اللغة الأم التي تقال في السرّ ووراء الجدران المغلقة، مما دفع ببعض الكرد الى بعث مدرسة سريّة لتدريس الكردية وهي لغة شعب موجود، لكنها لغة عدو بالنسبة للنظام الذي كان ينتهج العنصرية الشوفينية.
ورغم الحصار الذي ضُرب على اللغة الكردية، قال جان دوست إنّه يمكن التحدث عن «المعجزة الكردية»، فقد كانت اللغة مقموعة وفي يوم من الأيام نجد روايات ونصوصا هامّة دونت بهذه اللغة.
حُورب سليم بركات بسبب قوميّته ولا على أساس ابداعه
وحول حظوظ الكردي الذي يكتب بالعربية وامكانيات نشر مؤلفاته، ضرب جان دوست مثال سليم بركات قائلا انه حورب في سوريا ليس لأنّ ابداعه لا يفهم بل لأنّه كردي. وذكر أنّ جريدة تشرين التي يصدرها الحزب الاشتراكي السوري هاجمت مثلا سليم بركات عن خلفية علاقاته مع اليهود، كما حورب وتم التنبيه الى قوميته لأنه كردي، بإختصار كان يُنظر الى قوميّة المبدع لا الى ابداعه.
ودائما بخصوص سليم بركات الذي ترجم له دوست رواية «الريش» من العربية الى الكردية، قال الضيف إنّه هام «أن نعيد سليم الى بيته وهو «الابن الضّال» أو الطائر الذي خرج من السرب ونريد ان نعيده الى سربه» مشيرا الى أنّ سليم بركات كتب بروح كردية ويعتبر من الكتاب الكرد. وقال: «لا نطلب من بركات ان يبدع بالكردية، بل نحن من سيقوم بإيصال صوته الى من يقرأ له».
رواية «عشيق المترجم» هي عمل الآن أو اللحظة التي يُسفك فيها الدم بذريعة الدفاع عن الله
أمّا عن روايته الأخيرة «عشيق المترجم»، فقال دوست أنّ هذه الرواية هي «عمل الآن أو اللحظة التي يُسفك فيها الدم بذريعة الدفاع عن الله». وأضاف دوست: «أتمنّى أن لا أكون مهرطقا لكنّنا نحاول أن نحرّر الله من الذين صادروه لمصلحتهم الخاصّة». وبيّن دوست أنّ رواية «عشيق المترجم» تنقل قصّة مجموعة من الفتيان المسيحيين الذين يسافرون الى روما لتعلم اللغة اللاتينيّة كي يعودوا الى بلادهم مترجمين ويرافقهم شاب مسلم، فتجري حوارات مع الراهب والفتيان ويحدث تماه بين شخصيات تنتمي الى مذاهب مختلفة لكنّها تلتقي حول قيمة التسامح.
نحن محكومون بالحب وعلينا ان نُفخخ أقلامنا ورواياتنا بالتسامح 
وفي سياق روايته الأخيرة، قال دوست: «نحن نُفخخ أقلامنا والروايات التي نكتبها بهذه الأفكار -أي التسامح- التي يجب أن تصل الى الناس».. يستوقفه هنا كمال الرياحي متسائلا: هل من معنى للالتزام اليوم؟ فيجيب دوست أنه يعتبر نفسه ملتزما وأنه من المهم أن نواجه من يؤمنون بالتطرف بالأدب. فما دام الظلام موجودا في مناطقنا، فمن دورنا أن نتصدّى له.. أن نكتب عن شيء نفتقده وهو التسامح». وقال دوست «إنّنا محكومون بالحب، فإذا قال سعد اللّه ونوس إنّنا محكومون بالألم، فأعتبر أنّنا لا نستطيع أن نواجه الحرب الا بالحب. لا يمكن أن نواجه الموت إلاّ بالحب فهو أقوى الأسلحة ضدّ الموت».
أنحاز للإنسان قبل كل شيء
وفي ما يتعلق بروايته «دم على المئذنة» التي تعرض فيه دوست لمسألة كردية كردية، قال الكاتب: «أنا أنحاز للإنسان قبل كل شيء.. لقد كتبت هذه الرواية دفاعا عن أناس بسطاء قتلوا من قبل القوّات الكردية.. أنا أنتمي الى مولاي أحمد خاني الذي دعا منذ قرن الى تحرر الكرد من العثمانيين كما دعا الى نقد الأمير».. ويضيف دوست «عشنا في سوريا تحت ظلّ القمع وعلينا ان ننسى القمع والزنازين بحجة أنّ هناك عدوا خارجيّا اسمه اسرائيل!»
 لم يبق في كوباني بيت يتذكره النازحون 
وبخصوص التراجيدية التي عاشتها مدينة كوباني الكردية السورية، قال جان دوست إنّه لم يبق فيها بيت يتذكره النازحون وأضاف أنّ العائلات حملوا المفاتيح معهم عندما غادروا المدينة آملين في عودة قريبة الى ديارهم ولمّا رجعوا لم يجدوا الأبواب!!
وعرّج دوست على الدور الذي لعبته نساء كوباني في التصدي لهجمات تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام قائلا إنّ «النساء الكرد سطرن سطورا مشرقة لنساء العالم». وأضاف أنّ الآلاف من النساء والبنات صعدن الى الجبال عندما تعلق الأمر بالمسألة القومية والدفاع عن الشعب الكردي والكثير منهن استشهد دفاعا عن القضية. وفسّر دوست مشاركة المرأة الكردية في الشأن العام بما جاء في كتاب «رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم» لمحمود بايزيدي الذي بيّن فيها مكانة وحضور المرأة في التركيبة المجتمعية الكردية. وذكر دوست أن حزب العمال الكردستاني كان له دور أيضا في تحرّر المرأة الكردية.
أيها الزائر الى كردستان...
وفي إستحضاره لمسألة القومية الكردية والشعب الكردي الذي يعتبر من أكثر الشعوب شتاتا في العالم، تحدث دوست بلغة القلب وبمنطق الإنسان الذي يطالب بالحق في دولة تجمع ناسها ومهاجريها معرّجا على الكردي «قاضي محمد» مؤسس جمهورية ماهاباد التي دامت 11 شهرا ـ وهي أول جمهورية كردية ـ وقد أعدمته السلطات الإيرانية سنة 1947 قائلا: «نحن هنا منذ آلاف السنين، جاء الوافدون واستوطنوا فيها... في مرحلة سطوع القوميات أصبح هناك خوف من الكردي فكان لابدّ من أن تكون هناك ثورات ومحاولات للتضيق عليه». 
وفي خاتمة اللقاء الذي شهد تفاعل الجمهور الحاضر على غرار الأستاذ جلول عزونة والكاتبة فاطمة بن محمود والمترجم فرانشيسكو ليجيو، إستحضر جان دوست قصيد «الجندي المجهول» لعبد الله به شيو الذي قال: أيها الزائر الى كردستان الذي تحمل باقة ورود لا تسأل أين ضريح جنديكم المجهول؟  فعلى ضفة أية ساقية، على دكة أي مسجد، على عتبة أي منزل، أمام مدخل أي كهف أو محراب أية كنيسة، على أي شبر من الأرض ضع إكليلك وامض ففي كل بقعة مأساة.
شيراز بن مراد

الثلاثاء، 21 أبريل 2015

من رموز الحركة الوطنية: محمود الماطري الطبيب المناضل

نظمت مؤسسة فرحات حشاد وجمعية المقاومين التونسيين يوم الاربعاء 8 أفريل ندوة بعنوان «الزعيم الحكيم: محمود الماطري (1897 ـ 1972)» احتضنتها دار الكتب الوطنية وشاركت فيها مجموعة من أساتذة التاريخ ومن السياسيين فضلا عن عدد من أفراد عائلته.
وتولى الفنان رجاء فرحات تقديم الشخصية قائلا إنّ اسم محمود الماطري يعتبر رسالة حيّة لأنّه الرائد الذي دفع الثمن غاليا لبناء الصحة العمومية في تونس والذي لم يتوان على الدفاع على حق التونسيين في الصحة والطب وكان تواقا الى تنظيم المهنة على أسس صحيحة. كما ساهم بمعيّة رفاقه في تأجيج جذوة النضال في مختلف مراحل الحركة الوطنية.
وقال فرحات إنّه من الهام أن يُسلط الضوء على هذه الشخصية التاريخية وأن يعرف التونسيون كيف صنعت نخبة مثقفة وجامعية المعجزة وكيف قادت حركة التحرير الوطني بأقل التكاليف بفضل ذكائها وحسّها وكان الماطري من أبرز رموزها.
محمود الماطري: الطبيب المناضل
إثر ذلك تولى الدكتور عمر الشاذلي تقديم مداخلة أولى ذكّر فيها بأنّ محمود الماطري كان أوّل رئيس مسلم لعمادة الأطباء التونسيين. وتحدث الشاذلي عن مسيرة الماطري انطلاقا من رحيله الى فرنسا وتحصله على الباكالوريا هناك سنة 1919. كان الماطري معاديا للحماية الفرنسية التي جابهها بسلاح العلم وبفضل الانخراط في الحراك السياسي والمدني حيث التحق بالحزب الشيوعي وبالحزب الاشتراكي وكذلك برابطة الدفاع عن حقوق الإنسان.
وبيّن الشاذلي أنّ الماطري استعمل أيضا سلاح الإعلام في نضاله حيث كتب في عدّة مجلات وصحف فرنسية وتونسية ومنها «صوت التونسي» و«تونس الطبيّة» و«Clareté» والتي انتقد فيها تعامل المستعمر مع التونسيين على المستوى الطبي والنقائص التي كان تعرفها المستشفيات آنذاك. وعرّج الشاذلي على الدور الذي لعبه الماطري مع الدكتور إرنيست كونساي عندما حلّ بتونس وباء الطاعون سنة 1930، فساهم من خلال إجراءات طبية جريئة في وضع حدّ لتفشي المرض.
وكان الماطري من بين زعماء الحركة الوطنية الذين احتجوا أمام مقر الإقامة العامة الفرنسية بتونس في 9 أفريل 1938 للمطالبة ببرلمان تونسي رغم معارضته لذلك في بادئ الأمر خوفا على أرواح التونسيين. إثر ذلك نُفي الماطري بمعية عدد من زعماء الحركة الوطنية الى برج لوبوف في قلب الصحراء التونسية.
وختم الشاذلي مداخلته باستحضار ذكريات شخصية مع الدكتور الماطري ومنها رحلتهما الى بيروت وخصال الطيبة والتواضع اللتين كانت تميزه.
نضال بالفكر والموقف في مواجهة المستعمر
ثمّ تسلم الأستاذ عادل بن يوسف -الذي اهتم بدراسة الطلبة التونسيين بفرنسا في الفترة الفاصلة بين سنتي 1882 و1956- الكلمة معرجا على الدور الذي لعبه الدكتور سالم الشاذلي الذي اطّر وشجّع الماطري طوال فترة دراسته الطب التي دامت 8 سنوات في مدينة ديجون الفرنسية.
وتشهد المراسلات التي جمعت الطرفين على العلاقة المتينة التي ربطتهما وكان الماطري يمضي رسائله بكلمة «Hak» أو حق مما يعني أنّه كان يحمل قضية معينة. ولاحظ المتدخل أنّ الرقابة الأمنية كانت قوية ناهيك أنّ كتابات الماطري في مختلف الصحف التونسية والفرنسية كانت نقدية وإنّه انخرط في النضال السياسي والمدني وأضحى من أبرز وجوه الحركة الوطنية. وقال بن يوسف إنّ كتاب «عرق البرنوس» لأستاذ التاريخ لزهر الماجري ـالذي صدر مؤخراـ يرصد نضال زعماء الحركة الوطنية في مواجهة النظام الاستعماري.
محمود الماطري الزعيم السياسي
ثمّ تولى الأستاذ المحاضر في التاريخ المعاصر علي المحجوبي الحديث ليستحضر وجها آخر للدكتور محمود الماطري كزعيم سياسي قائلا إنّه في فترة إقامته بفرنسا كان يتردد على المجالس الأدبية ويكتب في الصحافة الفرنسية. وعندما عاد الى تونس سنة 1926، كان بمثابة المثقف الذي يحمل قضايا شعبه ويؤمن بقيم الحركة والعدالة وحقوق الإنسان.
انخرط محمود الماطري في الحزب الحرّ الدستوري وكان يعتبر أنّه يجب العمل على تعبئة القوى الشعبية ولا الاقتصار على الاجتماعات السياسية. كما اهتم الماطري بإعانة طلبة شمال إفريقيا بفرنسا وندّد بعرقلة السلطات الفرنسية لتعليمهم. وفي 1931، كان الماطري من بين مؤسسي جريدة «العمل التونسي» مع الحبيب ومحمد بورقيبة والبحري قيقة، هذه الجريدة التي لعبت دورا في مناصرة عديد القضايا الوطنية.
وفي ماي 1933 إنضم الماطري إلى الحزب الحر الدستوري ليستقيل منه ويساهم في تأسيس الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد في 2 مارس 1934 وقد انتخب الماطري رئيسا للديوان السياسي للحزب، لتتالى نضالاته السياسية إلى أن نفي في نفس السنة في برج البوف. أفرج عليه في سبتمبر 1936، وعاد الحزب الدستوري الجديد إلى النشاط ليستقيل من رئاسته في جانفي 1938. كان الماطري والبحري قيقة يعتبران أنّ المطالبة بالاستقلال غير واردة في هذه الظروف لأنّه يجب تهيئة الشعب ناهيك أن الفاشية الإيطالية كانت تطالب بتونس وأنّ فرنسا أهون من استعمار إيطاليا الفاشية.   
ورغم توّجسات الماطري من حصول مجزرة تُزهق فيها أرواح التونسيين إلا أنه شارك في مسيرة 9 أفريل 1938 مطالبا بالاعتدال خلافا لعلالة البلهوان الذي كانت له نزعة راديكالية. وقال المحجوبي إنّ الماطري كان مثقفا ملتزما يتمتع بالرصانة وبالاعتدال وبالموضوعية. كان يحترم خصمه ويدافع بعقلانية مؤمنا بأهمية الأخلاق في السياسة.
محمود الماطري والمنصف باي
وفي مداخلة ثالثة، قدّم الأستاذ منصف باني قراءته لمسيرة محمود الماطري رجل الدولة معرجا على الفترات التي تولى فيها الماطري مناصب وزارية مشيرا الى انّ الماطري شارك في حكومة المنصف باي الثورية من 7 جانفي 1943 الى غاية 19 ماي 1943 وبالتحديد في حكومة شنيق الأولى حيث عُين وزيرا للداخلية كما عُهدت له الشؤون الصحية. وما يحسب للماطري أنه بعث منظمة الهلال الأحمر التونسي كما ساهم في تعميم وزيادة رواتب الموظفين مع العلم أنه تم تشكيل هذه الحكومة دون التشاور مع الفرنسيين وذلك بحثا على السيادة التونسية ووضعها فوق كل إعتبار.
وبعد نفي المنصف باي، إنظم الماطري الى الحركة الوطنية التي طالبت بضرورة إعادة الباي الشرعي. ثم شارك الماطري في حكومة شنيق الثانية مع صالح بن يوسف الى أن تم إعتقالهم. نفي الماطري الى الجنوب ثم أفرج عنه في 9 ماي 1952 ليواصل نشاطه في الحركة الوطنية متقلدا منصب الوزير بعد الإستقلال وذلك الى غاية 1957 تاريخ إنسحابه من السياسة.
وفي نهاية اللقاء، أخذت إبنة الدكتور الماطري أنيسة الماطري حشاد الكلمة لتؤكد أنّ والدها إستقال لا خوفا من الفرنسيين وإنما لأنه كان يتمسك بأن لا يسيل دم التونسيين. ولاحظت أن هذه نقطة الإختلاف الاساسية مع بورقيبة. ومن جهة أخرى، أشارت السيدة أنيسة الى تعلق والدها بالثقافة وبالمعرفة اللذين كانا يمثلان بالنسبة اليه أفضل سلاح لتحقيق التقدم.
شيراز بن مراد

المخرج سهيل بيوض: قانون استهلاك الزطلة أصبح خارج السياق الاجتماعي وعلى المسؤولين والنواب أن يهتموا بآفة يعاني منها 3 مليون تونسي!

عبّر لنا المخرج سهيل بيوض في لقاء جمعنا به مؤخرا عن استيائه من عدم امكانية عرض فيلمه «ما تتفرجوش فينا» الذي يطرح موضوع استهلاك القنب الهندي أو ما يعرف بالزطلة. وقال بيوض إنه لمن المؤسف حقا أن لا يُعرض الفيلم -الذي سبق له أن قُدّم في مهرجانات سينمائية في إيطاليا وإسبانيا- وأن لا يُفتح نقاش حول مشكلة أساسية يعاني منها 3 مليون تونسي وهي استهلاك الزطلة وقانون 52 المتعلق بعقوبة استهلاك الزطلة.
 واستغرب بيوض من ملازمة المسؤولين والنواب الصمت في هذه القضية خاصة أن القانون الذي يجرم الاستهلاك من المفروض أن يعرض قريبا على مجلس النواب. وفي هذا الصدد تساءل بيوض «من هي الاطراف التي تقرّر وتستحوذ على الخطاب وفق مصالحها، لماذا يتواصل الصمت حول تداعيات هذا القانون الذي لم يضع حدّا للاستهلاك بل كان له مفعول عكسي حيث ارتفع معدل استهلاك الزطلة 3 مرّات منذ سنّ القانون عدد 52 سنة 1992».
وقال بيوض إنّ فيلم «ما تتفرجوش فينا» الذي يقدّم شهادات حيّة لمستهلكي الزطلة يهدف الى إثارة النقاش والى فتح أبواب الحوار حول هذه الظاهرة وكيفية التعامل معها فضلا عن علاقة هذا القانون بالهجرة غير الشرعية.
ومن جهة أخرى، ذكر محدثنا أنّ فيلمه يؤكد شيئا هاما وهو أن قانون 52 الذي يحكم بالخوف لم تعد له أيّة فاعلية لا سيما أنّ المشاركين في الفيلم قدموا شهاداتهم بوجود مكشوفة وهو ما يعني أن القانون لم يعد ناجعا في ردع الإستهلاك، فالمجتمع تطور وأساليب تعامل الدولة مع الشعب والشباب يجب أن تتطور هي أيضا.
وختم بيوض حديثه قائلا إنّ قانون 52 المتعلق بعقوبة استهلاك الزطلة أصبح خارج السياق التاريخي والاجتماعي والثوري الذي نعيشه اليوم وأنه على المشرّع أن ينصت الى هموم الناس وأن يسعى لإيجاد أفضل السبل للتعامل معها لا أن يرمي بآلاف الشباب في غياهب السجون مع كلّ ما يمكن أن ينجر عن ذلك من عواقب.
شيراز بن مراد

المخرج العراقي جواد الأسدي: داعش "مارينز جدد" ألبستهم أمريكا قناع الإسلام لتحطيم الشرق نهائيا

تحفرُ مسرحية «حمّام بغدادي» للمخرج العراقي جوّادي الأسدي في قلب المحنة العراقية، تلك التي أشعل فتيلها صدام حسين ثم أجج نارها الأمريكان قبل أن يُلهب سعيرها الداعشيون.. حول هذا العمل المميز الذي تتواصل عروضه بمسرح التياترو بالعاصمة (أيام 23 و24 و25 أفريل) كان لنا لقاء مع المخرج جواد الأسدي صاحب «مسرح بابل» ببيروت وعديد الأعمال المسرحية على غرار "رأس المملوك جابر" و"العائلة توت" و"المجنزرة الأمريكية ماكبث" والتي تنبش في مجملها في انتكاسات العالم العربي وما يعتمل فيه من وجائع دفينة..
من خلال قصة مأساة أخويه اللذين أُعدما في عراق التسعينات والتي نقلها جواد الأسدي الى مسرحية «حمام بغدادي» يُدخلنا المخرج الى لبّ ألمه والى صميم الجرح العربي. حول هذا العمل الذي ينقل صفحة من صفحات السجل التراجيدي العربي كان لنا لقاء مع الأسدي تطالعونه في الورقة التالية:
استلهمت نص مسرحية "حمّام بغدادي" من مأساة عائلية عشتها في التسعينات، فلو تشرح لنا هذه الدوافع؟
سببان اثنان دفعاني الى كتابة نص «حمّام بغدادي»، فبعد غياب حوالي 25 سنة عن العراق بسبب الظلم والاستبداد والديكتاتورية، رجعت الى بلدي بعد سقوط صدام ودخول المحتلين فشعرت بأنه ليس العراق الذي أعرفه، فما فعله صدام كان بمثابة فاتحة لتخريب بلاد كانت في يوم من الايام جنة فحولوها الى رماد.. اثر ذلك حلّ الامريكان فـ"كمّلوا عليها"، مدوا أيديهم بشراسة كبيرة لتمزيق العراقيين اكثر فأكثر وهذا السبب الاول. يعني أنا خرجت من بلادي التي كانت تمثل لي فردوسا وطبيعة آسرة ومجتمعا مدنيا ثمّ عدت في يوم من الأيام فاكتشفت الخراب المهول وهو ما صدمني وجعلني أتعذب.. الشيء الثاني هو فقدان إخوتي، فقد كان لي أخوان يشتغلان في قياة الحافلات (بغداد - دمشق - عمان) وتعرضا للقتل بسب غليان النزاع الطائفي السني-الشيعي ووصول الحياة الطائفية الى ذروة وحشية جدا.. دُمرت عائلتي واجتيح بلدي فحاولت قدر الامكان أن أرسم صورة من خلال شخصين - أخوين- يقودان الحافلات ويلتقيان في حمام للاغتسال ومن ثمّة ينزلقان الى كشف البؤس والعذابات والآلام التي سُلطت على الشعب العراقي عبر حكايات بسيطة ينبشان من خلالها اختلافاتهما ومشاكلهما.
أشرتم في المسرحية الى حادثة وقعت سنة 98 واغتيل فيها 40 شابا عراقيا بالدم البارد، فلِمَ هذه الحادثة بالذات؟
تاريخ 98 هو اشارة الى نظام حزب البعث والى الجحيم الذي حدث في التسعينات عندما تحولت بغداد كلها الى سجون وتحول العراقيون كلهم الى سجناء حتى وان كانوا ليسوا في السجن، فالسلوك الاستبدادي والتفرد بالسلطة وبالثروات والحروب المتتالية مع ايران والكويت وتفريغ العراق من النبرة المؤسساتية والمدنية ثم طغيان الفكر الطائفي والسلفي، كلّ ذلك فتح الباب على هذا الجحيم الذي نحصد الآن ثماره.. باختصار ما نشاهده اليوم في العراق من تغلغل لداعش والخلاف بين السنة والشيعة والقتل الوحشي الذي لم نر له مثيلا بتاريخ العالم، لم يأت من فراغ بل من تاريخ من الانتكاسات وعلى رأسها انتكاسة الفكر الديمقراطي الذي لم تقدر السلطة العراقية الاشتغال عليه. والامريكان عندما دخلوا الى العراق، لم يدخلوا لكي ينقذوا العراقيين إنما لكي يدفعوهم الى الذل والقهر أكثر فأكثر وحتى يحولوا هذا الشعب القوي، الشعب الذي له تاريخ ومتاحف وإرث عظيم، يحولوه الى شعب لا حول له ولا قوة، شعب مثل الرجل المريض، جائع مهلهل، مفكك يذبح فيه البعض البعض الآخر وذلك حتى ينهبوا ثرواته. وقد سعى النص الى تسليط الضوء على قهر العراقيين من خلال حكايات فيها كوميديا وطرافة ثم تدريجيا تتطور الحكاية الى الأسوأ، الى المأساة..
من يتحمل مسؤولية المأساة في نظركم؟
الغرب وعلى رأسه أمريكا مع اللوبي الصهيوني المتشدد. الدولة العراقية أيضا لم تتمكن خلال الـ40 أو الـ50 سنة التي مضت من تكوين دولة مدنية، مؤسساتية تحمي الانسان، ما قدرت تبني انسانا جديدا مختلفا مثلما يفعل الاوروبيون. فعندما تزور السويد او النرويج تلاحظ أنّ الانسان محمي بالمؤسسات وبالدساتير. مع الاسف ما اشتغلت عليه الدولة العراقية هو تجهيل الناس وتعذيبهم وتفريغهم من تاريخهم. وداعش ليست الا استمرارا للنبرة السلفية الدينية المتطرفة المتراكمة منذ عشرات السنوات. اعتقد أنّ داعش «مارينز جديد» ولكن بقناع اسلامي.. الامريكان ألبسوهم قناعا اسلاميا وركبوهم ورتبوهم لكي يكونوا بمثابة قوة جديدة تقتحم الشرق وتعيد كتابة تاريخ الشرق. الامريكان أرادوا أن يرموا بالشرق الى الحروب والقتل والى التشرذم والطائفية المقيتة، أن يفرغوا الشرق وخاصة البلدان ذات الحضارة العريقة مثل العراق وسوريا ومصر وتونس، أرادوا ان يحولوا بلادنا الى خراب حقيقي.. إذا رحتم الى بغداد اليوم فستدخلون في دوامة من الحزن، فليس هذا هو العراق لا كجغرافيا ولا كبشر. أعتقد أنّ لي مع الممثلين واجبا تاريخيا للنبش ولإضاءة ما نتعرض له من هدم.
للمسرحية إذن طابع سياسي؟
لا، المسرحية ليست سياسية بل هي عمل اجتماعي انساني فيها درجات مختلفة. ما تضمنه العمل مقطع صغير مما يعيشه العراقيون اليوم وليس الا ورقة من 30 أو 100 ورقة من العذاب الذي يعيشه يوميا العراقيون.. هناك نصوص وحكايات وقصص ومجاعات ومرارات لم تمر بتاريخ الناس أبدا وقد توّجت هذه المصائب بالموصل بداعش وباغتصاب النساء تحت لائحة النكاح الجماعي وببيع النساء في سوق الجمعة. أرجعونا الى ما قبل تاريخ البدائية البذيئة بشكل أو بآخر في حين أنّ الشعب العراقي مثل وأخلاق وقيم وجمال آسر.. كلّه سقط مرّة واحدة وهذه هي الورطة الكبيرة التي نحن فيها الآن.
بقدر ما يشدنا الجانب التراجيدي في المسرحية بقدر ما نلاحظ جانب الأمل والمناداة باستعادة الانسان، فهل تعتقدون أنه مازال هناك مجال للأمل؟
عندي إحساس بالأمل ولكن بصراحة شديدة ما يجري -ولكي نكون واقعيين ولا نسقط في المغالطات- في الوطن العربي من انهيارات ومن تصدع ومن طغيان للفكر السلفي ليس بالمعنى الديني، بل بالمعنى الاجتماعي والثقافي، ما يجري أمر مريب ولا أظن أن هذا الغبار السميك المتراكم سيزول بسهولة. في تونس مثلا أراهن على المجتمع المدني التونسي وهو الشيء الذي لم يحصل في العراق، يعني الدولة العراقية لم يكن لها شخص مثل بورقيبة ولو أنه من المستبدين لكن كان له وجه ثان استطاع أن يخدم به تونس، لم يأتنا حكم عرف كيف يخدم الشعب العراقي، ولذا آثار بورقيبة وبعض الناس المتمدنين والحكماء الموجودين بتونس فضلا عن المرأة التي لعبت ومازالت تلعب دورا كبيرا في طبيعة شراسة وقوفها مع حرية المجتمع بالاضافة الى اتحاد الشغل والناس الذين يخافون على بلدهم. أعتقد أنّ كل ذلك يشكل صمام أمان أمام كل محاولات التدخل والزعزعة. ونحن نراهن على الطابع المدني الموجود في تونس لكي يصمد ولا يقع في الحفرة، حفرتنا نحن، حفرة العراقيين..
تتحدثون عن العراق، بلد النفط والرافدين!!
تصوّروا نحن أغنى بلد نفطي ولكن ثلاثة أرباع الشعب العراقي يعيش تحت خط الفقر، تحت الصفر حتى أن هناك أناسا بمحافظات العراق، بقرى بالحلة والنجف وكربلاء والناصرية يشربون الماء الوسخ! لم يعد هناك ماء ونحن بلاد الرافدين دجلة والفرات. أناس يسكنون في العراء تحت الصفيح.. الى أين يذهب النفط؟ والى أين تذهب المليارات من الدولارات؟ هناك لصوص جدد أمريكيون وأوروبيون وعراقيون مرتهنون يتفنون في بيع الثمار العراقية في أسواق قذرة والعراقيون الذين هم أصحاب البلد يعيشون حالة جوع متفردة.. هذه مصيبة كبيرة.. تصوروا أنّ للعراق من المدخرات النفطية ما يعادل كل مدخرات الوطن العربي.
سئمتم السياسة والخراب وقلتم إنّ حزبكم هو المسرح، فلماذا هذا الخيار؟
بعد فقدان ثقتي في إمكانية وجود أحزاب حقيقية ديمقراطية داخل المجتمع العربي وبسبب السلطة العربية التي هي عبارة عن سلطة مكونة من وحوش كاسرة وأناس متخلفين وجهلة وأميين، من المستحيل أن يقدروا على تأسيس فكرة اسمها «الآخر»، كيف تعيش مع الآخر، كيف تسمح للآخر بأن يبعث حزبا ديمقراطيا حقيقيا لكي يقوم بدوره... إنّ هذا شيء مستحيل.. ولهذا فكرت أنّ المنصة-الركح هي البيت وهو الحزب والملاذ وهو مكان الخلاص، هو باختصار الجنة هو جنتي.. وقد كتبت كتابا صدر بدار الاداب اسمه «المسرح جنتي» أقول فيه إن المسرح هو الجمهورية الفريدة، الجمهورية الجميلة الرائعة، السحر، التي تمكنني من أن أقول فيها كل أفكاري.. أحيانا لا يكون عندك وطن، لا يكون عندك بيت حياة فيصبح المسرح حياتك، وهذه هي الحياة الارقى والاجمل، إنك تصنع أناسا وتحاور أناسا آخرين، تستدعي هاملت، تشيخوف، بيكيت، العالم كله يمكن أن تستدعيه على منصة المسرح..
لكن لماذا تظلّ الطبقة السياسية عمياء إزاء كل من يمكن ان يهديه الفن والمسرح من حياة ومن فوائد؟
هناك مع الأسف عمى معرفي وثقافي وجمالي، السياسيون والمستثمرون والبنوك لهم قدرات غريزية بالدرجة الاولى ويشتغلون على فكرة «وحشية الغرائز» بما فيها المال واللصوصية. الثقافة الحقيقية بالنسبة لهم هي بعبع كبير جدا.. فالمثقفون شُغلهم التنوير وطرح الاسئلة الجوهرية في المجتمع، بمعنى اعادة اعطاء الناس دفقا من التنوير ومن امكانية السؤال والمساءلة.. لماذا هذا كذا؟ ولماذا هذا كذا؟ وبالنسبة للسياسيين هذه طامة كبرى، فهم يريدون أن يكون المجتمع مشغولا بالقشور التافهة بمبتكرات تكنولوجية صغيرة وبالركض وراء ظلال الاشياء، ولا الاشياء نفسها، هم يحجبون الحقيقة الكبرى التي هي المعرفة، ولهذا لا يمولونها ولا يعطونها ولا يساندونها.. عندي في بيروت مسرح اسمه «مسرح بابل» بعثته منذ سنة 2006 وصدقيني نحن نقاتل قتالا شرسا ماله مثيل فقط من أجل دفع الايجار السنوي.. لا دولة تعطيك ولا مؤسسات ولا ولا..
والجمهور؟
نراهن فقط على الجمهور، وحتى الجمهور تغيّر وأصبح «جمهورا ايروتيكيا» يذهب وراء النكتة السياسية المبتذلة ووراء الكود الكنسي المبتذل ووراء الضحكة الخفيفة وإذا كان العرض يطرح أسئلة يرفضها قائلا «أنا مريض .. أنا تعبان».. أحنا صرنا مخلوقات «دون كيشوتية» حالمة وحياتنا صارت مثل حياة القساوسة الذين عليهم يوميا ان يذهبوا الى كنيستهم ويجلسوا لأداء فرائضهم. البعض يطلب مني «النزول » الى مستوى الناس، وإذا تخليت عن السؤال المعرفي والفلسفي الذي أحمله من زمان سأتحول الى شخص ثان مختلف عن جواد الأسدي. 

حاورته: شيراز بن مراد
تصوير كريم عمري

السبت، 4 أبريل 2015

الكاتب جمال الجلاصي يُصدر «علي بن غذاهم... باي العربان»

تحت عنوان «باي العربان»، أصدرت مؤخرا دار زينب للنشر رواية جديدة  للكاتب التونسي جمال الجلاصي وهي رواية من النوع التاريخي بطلها المناضل علي بن غذاهم الذي قاد ثورة سلمية سنة 1864 ضد مضاعفة المجبى قائلا: «نحن طلاب حق، وثرنا لرفع مظلمة».
وحول هذا العمل الذي جاء في شكل سيرة مُتخيلة، قال جمال الجلاصي إنّه اعتمد التوثيق لمعرفة المناخ الذي دارت فيه الأحداث في تلك الحقبة ومن المراجع التي اعتمد عليها كتاب «الاتحاف» لابن أبي الضياف.
وذكر الجلاصي خلال إستضافته في ورشة "بيت الخيال" التي يشرف عليها الكاتب كمال الرياحي، إنّنا دائما نعتز بالأحداث التاريخية التي شهدها القرن 19 لما فيها من روح إصلاحية   وطلائعية كوضع أول دستور في العالم العربي (دستور عهد الأمان 1861) ومنع الرّق (قانون منع الرق 1846)، إلاّ أنّها شهدت أيضا وقائع وشخوص عرفت مصيرا مأسويا كذلك الذي عرفه علي بن غذاهم الذي تمّ اعتقاله في فيفري 1866 ومات في السجن في أكتوبر 1867.
ويذكر أنّه صدر أيضا للكاتب جمال الجلاصي في الفترة الأخيرة كتاب «الزنوجة» وهو ترجمة للأعمال الكاملة للشاعر السينغالي ليبولد سنغور.
شيراز بن مراد

الدّورة الأولى لمهرجان «سيكا جاز» بالكاف تكلّل بالنجاح

بمبادرة من مجموعة من أبناء الكاف وعلى رأسهم الأستاذ رمزي الجبابلي، إنتظمت فعاليات الدورة الأولى لمهرجان «سيكا جاز» أيام 20 و21 و22 مارس 2015 بالمبنى الأثري «القصبة». وقد تميّزت الدورة بتنظيم محكم وبحضور جماهيري مكثّف خاصّة خلال اليوم الثاني الذي تزامن مع يوم السبت حيث أقبل المئات من شباب مدينة الكاف ومن السياح التونسيين والأجانب للتمتّع بنغمات الجاز وللتعبير عن التمسّك بحب الحياة رغم الأحداث التراجيدية الأخيرة التي شهدها متحف باردو.
وفي هذا السياق أكّد مدير المهرجان رمزي الجبابلي خلال كلمته الافتتاحية أنّه تمسك بتنظيم الدورة الأولى رغم المخاوف التي تسبّبت فيها أحداث باردو الارهابيّة في نوع من التحدي والصمود أمام كل ما يمكن أن يهدد إستقرار البلاد.
هذا وأشاد الجبابلي بمجهود فريق المهرجان الذي لا يتجاوز معدل عمر أفراده 25 سنة مناديا بأن تتعدّد مثل هذه المبادرات الفنية في جهات أخرى من أراضي الجمهوريّة. كما توجه الجبابلي بالشكر لكلّ من دعّم المهرجان من مستشهرين على غرار شركة ميديا كوم وشركة «أفراح» التي وفرت الخيمة العملاقة التي غطت ساحة القصبة وشركة «فيا» للأسفار منتقدا في نفس الوقت شركة «أوريدو» التي لم تف بتعهّداتها ولم تكن في مستوى الحدث..
وأحيى عرض الافتتاح كلّ من الفنان محمد علي كمون (من تونس) والفنّان كريم زياد (من الجزائر) وتولى الفنانان تقديم آخر انتاجاتهما الفنية التي لاقت صدى طيبا لدى الجمهور.. أما الليلة الثانية من أيام «سيكا جاز»، فأحياها الفنان ابراهيم شيدة صاحب الصوت الجبلي وأصيل مدينة الكاف بمعية فرقته «صالصا كوبانا»، ثم صعد على الرّكح الفنان المغربي عزيز سحماوي والذي قدّم بدوره مجموعة من أغانيه على غرار «مكتوب» و«مازال» و«ياسمين» وغيرها.. ويمكن القول انّ السهرة الثانية كانت ناجحة بكل المقاييس رغم بعض الصعوبات التقنية.
أمّا سهرة الاختتام، فشهدت عرضين موسيقيين لكلّ من التونسيين مالك لخوة وعلياء السلامي وعازف السكسفون الأمريكي دافيد موراي. ويمكن القول انّ الدورة الأولى لـ«سيكا جاز» كُللت بالنجاح سواء من ناحية الاختيارات الموسيقية أو من ناحية التنظيم أو الحضور الجماهيري وذلك رغم الظرف العصيب الذي مرّت به البلاد. وقد رفع الفريق المنظّم لـ«سيكا جاز» التحدّي بامتياز.
شيراز بن مراد

وداعـــا عـــــزالـديــــن قـــنـــون "صـانـــع الأحـلام"

وداعا عز الدين قنون... رجل أحب المسرح فأعطاه من روحه ودمه.. رجل آمن بالمسرح الذي يبني الإنسان ويفتح الآفاق.. صمد في مسرح الحمراء وفي المركز العربي الإفريقي للتكوين المسرحي مع رفيقة دربه ليلى طوبال..
في ظلام الحمراء، كان عز الدين قنون يطلّ بعد ان تكون أعماله أنارت العقول وأفعمت الأحاسيس، فيقول حب المسرح ويستحضر الذاكرة ويتحدى الحياة ثم ينسحب في هدوء في إنتظار حلم مسرحي جديد وكلمات جديدة وركح حي مبدع لا يهادن ولا يستسلم.
كان قنون ينادي ويدعو في كل فرصة الى ضرورة صياغة بديل ثقافي يقطع مع الحلقة المفرغة للثقافة السائدة ويعيد المسرحي والمثقف الى مكانته الطبيعية في المجتمع بعيدا عن منطق التهميش والتغييب. ولذلك دعا قنون الى مواجهة جيوب الردة الثقافية التي لم تدرك حجم التحديات التي طرحتها الثورة وإلى إحداث رجّة كبيرة في الثقافة بكل ما تحمله من مفاهيم ومضامين وأشكال. فدور الفنون والثقافة أساسي في تقدم الشعوب والمجتمعات وفق رأيه.  
يؤمن قنون بـ«مسرح نخبوي للجميع» ذاك المسرح الذي يشكل وعاء يحمل كل التقاطعات من فلسفة وسياسة وفكر واقتصاد وعلوم إنسانية والتي تفرز بيانا مسرحيا حسيّا يتجه للإنسان مهما كان إنتماؤه وحتى لو كان "الإنسان العربي" لا يزال يعاني من رقابة أرجعته إلى الوراء وحدّت من تطور مستواه.
مقاومة ثقافية بأتم معنى الكلمة ذلك ما كان يفعله قنون في قلب العاصمة التي إستسلمت للفضاءات التجارية ولمنطق "جني المال" وتهميش معالم المعرفة والثقافة التي تعيد للإنسان إنسانيته. وقد عبر لنا قنون في لقاء أخير جمعنا به عن بالغ أسفه من تهاون السلطات مع الفعل الثقافي حتى غابت الثقافة عن الشوارع الحيوية للعاصمة وفي هذا إنذار بنهاية الإنسان.
ولعل الرسالة التي توجه بها قنون الى وزير الثقافة سنة 2011 تكشف الكثير عن شخصيته وعن مساره. إذ يقول قنون للوزير: "أنت لا تعرفني... اسمح لي إذن أن أقدم لك نفسي... اسمي عز الدين قنون... هل عرفتني... لا أظن... ومهنتي... هل تعرفها...لا أظن فأنا أصنع الأحلام...عندما كان الحلم ممنوعا... وعمري... هل تعرف كم عمري... لا أظن... فشعري الأبيض ليس بالبعيد عن لون شعرك... وعنوان بيتي... هل تعرفه... لا أظن... هو الحمراء... لا ...لا... ليس ملهى ليلي... انه مسرح الحمراء... قاعة عمرها 89 سنة... انتشلتها من الضياع وسكنت فيها منذ سنة 85 لأجعل منها مسرح الفنون واحد جيوب المقاومة... مقاومة الرداءة والتشليك الفني الشامل... وأولادي... هل تعرفهم... لا أظن... فهم كثر... من سنة 1980 وأنا أنجب... من"الصفقة" إلى "آخر ساعة" التي رقصت على ثلاثة أركاح ذهبية...
وأحفادي... هل تعرفهم... لا...لا أظن... فهم 279 فنانا عربيا وإفريقيا ترعرعوا في أول مركز عربي إفريقي للتكوين والبحوث المسرحية... ووطني... هل تعرف أين حلقت به... لا أظن لا أظن... فينزولا ورومانيا وفرنسا وإيطاليا وساحل العاج وسوريا وفلسطين ومصر ولبنان وفرنسا والأردن والمغرب ومالطا والبرتغال والسينيغال وبوركينا فاسو والبينين وبلغاريا والنيجر يعرفونني أكثر منك... ومبادئي... هل تعرفها... لا...لا ... لا أظن... أنا لا اطرق الأبواب ولا ألهث وراء لقاء ولا أصطف في أروقة الوزارات ولا ارتاح في قاعات الانتظار ولا اطلب صدقة".
وقد شيعت العشرات من الوجوه الثقافية فقيد المسرح التونسي عز الدين قنون الى مثواه الأخير بمقبرة الزلاج بتونس العاصمة. وكان الفقيد انتقل إلى جوار ربه يوم الأحد 29 مارس 2015 على الساعة العاشرة صباحا بعد أن أصيب بنوبة قلبية وهو في أوج عطائه وقد صدقت مقولته: "ما زلت أصنع الأحلام وتائها في الأوهام. حتى يأتي المنام". وبعد إستكمال مراسم الدفن، ودع الحاضرون قنون بالتصفيق في إشارة لعالم المسرح الذي إحتضنه طيلة حياته.
رحم الله عز الدين قنون رجل المسرح و"صانع الأحلام"  الذي أعطى للفن بلا حساب.
شيراز بن مراد

«كليّة الفيافي» لرضا التليلي: عرض شعري يستكشف أرض وثقافة سيدي بوزيد

 في إطار مشروع «فنّانون من أجل فلسطين» وعلى هامش المنتدي الاجتماعي العالمي، قدم الفنّان رضا التليلي يوم الجمعة 28 مارس عرض «كليّة الفيافي» بمشاركة كل من حسناء دخيل وانتصار عبد السلام وسامي الكامل وبعزيز سمحون.
وفي تقديمه ذكر مخرج العمل رضا التليلي أنّ «كلية الفيافي» عرض شعري يستكشف المكان وله منحى تجريبي بمعنى أنه يحاول الولوج في عوالم فنية ذات طابع خاصّ، كما يحاول تقديم فكرة أخرى عن جهة سيدي بوزيد.. وقد جمع التليلي بين العرض الموسيقي الذي ينهل من تراث جهة سيدي بوزيد وبين الفيلم الوثائقي الذي يقدّم أوجها مختلفة من طبيعة الجهة ومن تقاليد ناسها.
ولعلّ اللافت للانتباه في عمل التليلي هو ذلك التماهي الذي سعى إليه من خلال المزج بين المكان وثقافته، بين أهالي المنطقة وموسيقاهم، بين الفيافي النائية والفنّ الذي يسكنها حتى لو لم يكن ظاهرا للعيان.
وفي هذا السياق تعدّدت المشاهد التي تجمع بين الواجهتين: واجهة الطبيعة وواجهة الثقافة. إذ عمل التليلي على خلط أصوات انتصار وحسناء وسامي بأجواء أحد أسواق سيدي بوزيد، كما التقت الموسيقى بأطفال المنطقة وعانقت النّغمات محطات العرس التقليدي.
في «كليّة الفيافي» مزج التليلي التراث بالمكان في تصور فني ينتصر الى التجذّر في الأرض بكل ما تنطوي عليه من روائح وموسيقى وذاكرة ومشاعر وعادات ومعاملات. فسيدي بوزيد أو أي رقعة من هذا التراب لا معنى لها إذا لم تتشابك عناصرها الطبيعية مع ثقافتها بكلّ ما تتضمّنه الكلمة من مكوّنات: بشر ومعرفة وحراك وانتاج فنّي.
«كلية الفيافي» اسم طريف أعطاه التليلي لمشروعه ولسان حاله يقول إنّ الفيافي مدرسة أولى قد تفتح أمامنا أبواب معرفة لا ندركها، معرفة تجاهلناها في حين انّها حبلى بدروس الحياة والانسانيّة.
في «كلّية الفيافي» قادنا رضا التليلي الى تجربة حسّية نستكشف فيها أبعادا أخرى لوجودنا على هذه الأرض، أبعاد مُزج فيها عبق الأرض بروح الثقافة، فتتخفّى الثقافة أحيانا لتتسلطن الطبيعة وتطغى الثقافة حينا آخر على عناصر الطبيعة في تكامل مرن يدعو الى مساءلة الذات عن معناها وعن امكانية تماهيها مع فضائها الطّبيعي ومكوناته الثقافية.
شيراز بن مراد

مسرحية «بــلاتــو» لـغـازي الـزّغـبـانـي: لِــمَ هـذه الانـتـصـارات الـزّائـفـة؟

 تحت ضوء القمر، أناس يدبّون على هذه الأرض، بعضهم بؤساء يحلمون بأشياء بسيطة والبعض الآخر متشعبطون همّهم «الانتصارات الزّائفة» على حساب المبادئ والقيم..
حول هذا الداء الذي زاد إستفحاله في ربوعنا، دارت أطوار مسرحية «بلاتو» للمخرج غازي الزغباني -وهي اقتباس حرّ لنصّ «نيكراسوف» للكاتب جون بول سارتر- فاضحة الزيف التي انغمست فيه أطياف عديدة من المجتمع وكاشفة خيوط اللعبة الميكيافيلية التي اجتمع فيها خبث السياسة بإنتهازية الإعلام وبدهاء الإرهاب..
الكل يستغلّ الطرف الآخر لتحقيق مآربه الخاصّة ضاربا عرض الحائط بالقيم الانسانيّة المشتركة: أن تنجح في الانتخابات مهما كانت الأساليب قذرة، أن تحقق نسب مشاهدة تلفزية قياسية وتدهس على المبادئ، ان تكسب أكثر، أن تقتل بإسم المصالح، أن تقدم الوعود الزائفة، هي بعض من قيم هذا «العالم الجديد» التي انتقدها غازي الزغباني في عمله الجديد الذي عُرض يوم 27 مارس بقاعة الفن الرابع احتفاء باليوم العالمي للمسرح.
تنطلق المسرحية من تحت قمر أبيض كبير كسا الرّكح وأشعّ على زوج يعيش تحت خطّ الفقر، تَلمح الزوجة من بعيد شابا يحاول الانتحار في عباب البحر فتدعو زوجها لانقاذه، ويتّضح أنّ الشابّ هو «منصف فاليرا»، واحد من أكبر المتحيلين الذين تعرفهم البلاد. تصل الشرطة التي كانت تلاحق فاليرا فيفرّ هذا الأخير بحثا عن مكان يُؤويه ويقتحم مسكن صحافيين يشتغلان بقناة تلفزية معروفة. لإبعاد الشبهة، يتنكر «منصف فاليرا» في ثوب «أبو تقي» الأمير السلفي الجهادي، ومن هناك تتلاحق الأحداث من خلال نصّ طريف طوّعه غازي الزغباني ليقترب من الواقع التونسي وليقدّم عملا مسرحيا جاء في شكل «مسخرة» تقصت ما نعيشه اليوم من انحرافات شابت عالمي السياسة والإعلام.
يدقّ غازي الزغباني نواقيس الخطر بقوّة ليلفت الانتباه وليحذّر من حالة الانفلات التي أضحت تميز المشهد العام مرتكزا في ذلك على لغة مسرحيّة مازحة وساخرة. فهذا جيلاني (محمد قريع في دور مدير القناة) يحلم بالسبق الصحفي على حساب كل النّواميس المهنية همّه الوحيد تحقيق أعلى نسب مشاهدة، وهذه مدام بوعون (فاطمة سعيدان في دور المترشحة للانتخابات الرئاسيّة) تحتفي بفوزها قبل الإعلان عن نتائج الانتخابات، وهذا أبو تقي (غازي الزغباني في دور الأمير السلفي الجهادي) يبارك للإعلاميين ويهنّئم بوجود أسمائهم على قائمة الاغتيالات وهو يفرحون ويهللون.. أمّا «البيق بوس» (بشير غرياني في دور صاحب القناة) فحدث ولا حرج عن أطماعه اللامتناهية والتي بسببها أُهين الإعلام ودُمّرت السياسة.
وإلى جانب هذه الشخصيات التي نحتها غازي الزغباني بطريقة مميزة، يمكن القول إنّ مسرحية «بلاتو» تضمنت تجديدا على مستوى اللغة المسرحية حيث خرجت من القالب الكلاسيكي على مستوى التصوّر الركحي، فالركح متحرك واللوحات المتعاقبة تحمل طابعا خاصا ونستحضر منها على سبيل المثال لوحة البداية تحت ضوء القمر وأيضا لوحة صاحب القناة «البيق بوس» التي أعطاها الزغباني قوّتها بعد أن عكسها بشكل سريالي على الجدار الخلفي للركح بواسطة تقنية الفيديو، وكذلك اللوحة الراقصة التي أدتها بإقتدار الصحفية نجوى زهير، وأيضا لوحة فاطمة بن سعيدان التي قدمت فيها خطابها السياسي المثير، وهي كلها مشاهد نُحتت بطريقة أعطت روحا خاصة لـ«بلاتو». نفس الشئ بالنسبة للتعاطي مع التّيمات الرئيسية، فقد خاط الزغباني نصه بأسلوب مشوق ووزع حبكته بشكل يستوقف المشاهد ويستدرجه الى لبّ التساؤلات التي طرحها.
«نيكراسوف» أو «بلاتو» تماهت مع الواقع التونسي بانحرافاته السياسية والإعلامية فاضحة الدور الخطير الذي يمكن ان تلعبه بعض القنوات اذا ما فقدت البوصلة وأصبحت مطيّة سهلة لبارونات السياسة والارهاب، وقد قيل كلّ ذلك بلغة ساخرة تخاطب الضمير وتدفعه الى أن يبقى يقظا صاحيا متوهّجا وهي من أبرز الرسائل التي بعثت بها مسرحية «بلاتو».
شيراز بن مراد