السبت، 23 مايو 2015

بقلم الإعلاميـة الســيــدة الـــدوّ الـــــــقــــــايــــــد: 4 مؤلفات هامة توثق وترصد النضال النسائي التونسي قبل الاستقلال وبعده

تعتبر المناضلة والإعلامية السيدة الدّو القايد من الوجوه النسائية القليلة التي تولّت نشر ما عايشته من أحداث في الفترة التي سبقت الاستقلال فضلا عن اهتمامها بتوثيق شهادات عديد المناضلات التونسيّات اللاتي شاركن في معركة التحريرو وهو جهد هامّ ونادر رصد الحراك النسوي الذي كان قائما في البلاد لكنّه دخل طي النسيان لأسباب مختلفة... ولأنّه لا يمكن أن نغض الطرف عن عن الدور الذي لعبته المرأة التونسية ندا للند مع الرجل فقد ارتأينا، ان نسلّط الضوء في هذا المقال على عدد من منشورات الإعلامية السيدة الدو القايد، وهي مراجع يعتد بها في مجال النضال النسائي التونسي.
ويمكن القول دون شك أنّ السيدة الدوّ القايد تمثل كنزا من الذاكرة الحية بالنظر للكمّ الهائل من الروايات والشهادات والصور والوثائق والتساجيل الصوتية الموجودة بحوزتها..
 نساء ناضلن ضدّ الاستعمار
أوّل هذه الكتب يحمل عنوان «منارات الفجر ـ   تونسيات على درب النضال 1900 ـ 1956» ويتضمن مجموعة شهادات وسير ذاتية لثلة من النساء المناضلات.. ومن بين هؤلاء النسوة نذكر على سيبل الذكر لا الحصر أسماء الرباعي بلخوجة وعائشة باللاّغة وفتحية شاكر وجليلة بوجميل بلحاج وزبيدة بدّة ورفيعة برناز وخديجة بن رابح ومجيدة بوليلة وآمنة حشاد وخديجة الطبال وشريفة فياش وشريفة المسعدي وفاطمة النيفر وغيرهنّ عديدات..
تكمن أهمية العمل التوثيقي الذي قامت به السيدة الدوّ القايد في كونه يؤرخ لحقبة تاريخية لم تحظ بالاهتمام الكافي حيث يتضمن المؤلف أسماء وتواريخ وشهادات نادرة تؤكد الدور الذي لعبته المرأة التونسية خلال النصف الأول من القرن العشرين بهدف تحرير البلاد من المستعمر..
عينة من مؤلفات السيدة الدو القايد
كتاب يرصد مسيرة المناضلة مجيدة بوليلة
أمّا الكتاب الثاني فخصّصته السيدة الدو القايد الى المناضلة مجيدة بوليلة، المرأة الرمز التي لعبت دورا هامّا في حركة التحرير وفي تعليم الفتيات ودافعت عن قضايا المرأة.
انخرطت مجيدة بوليلة وهي من مواليد سنة 1931 بصفاقس في الحزب الحرّ الدستوري وأسّست سنة 1950 شعبة الربض النسائيّة، كما واكبت  بعث أفواج الكشافة للفتيات وساهمت في تأسيس فرع الاتحاد الاسلامي النسائي بصفاقس.
قرّرت مجيدة بوليلة القيام بتظاهرة نسائيّة للتضامن مع الزّعيم الهادي شاكر بعدما حاكمته السلط الفرنسيّة بتهمة عقد اجتماع دون رخصة، وعملت مجيدة بوليلة على مراسلة الزّعماء على غرار بورقيبة والهادي شاكر والمنجي سليم والهادي نويرة داعمة بذلك الحراك النسائي بالجهة.. كما شجعت النساء المناضلات على أخذ الكلمة في الاجتماعات وبرزت ـ إثر ذلك ـ على السّاحة السياسيّة عدة وجوه نسائيّة منهن فطومة النملة وحليمة الشعبوني ووسيلة بن سعيد وغيرهنّ.
كان لمجيدة بوليلة دور حاسم في عمليات المقاومة التي عرفتها البلاد مع مطلع سنة 1952 وقد تمّ التنسيق بين (شعبتي المدينة والربض والاتحاد النسائي الاسلامي) لتنظيم مظاهرة نسائيّة يوم 8 مارس 1952 لتحسيس الرأي العام وكانت المسيرة وفق ما نقلته السيدة الدّو في كتابها ضخمة العدد وطغى عليها الحماس ورفعت فيها شعارات ضدّ المستعمر ومن أجل تحرير البلاد.
وبعد المظاهرة التي اعتقل فيها عدد هام من المناضلات (خديجة شعور ومجيدة كريشان ومبروكة شعور ووسيلة الشعبوني وفاطمة النملة وحليمة الشعبوني ونفيسة الخراط وحميدة الميلادي وعائشة القفال)، استمرّ الاضراب العام في المدينة التي أصبحت تعيش حالة من الغضب والقهر ويوم 26 مارس تمت مداهمة بيت مجيدة بوليلة واعتقالها فنقلت الى محتشد تبرسق وكانت حاملا في شهرها الثاني.
وفي الفترة الأخيرة من حملها اطلق المستعمر سراحها لتتوفّى ساعات بعد وضعها لابنتها الثانية يوم 3 سبتمبر 1952..
ويتضمّن الكتاب الذي خصته السيدة الدوّ لمجيدة بوليلة صورا ومراسلات وتفاصيل هامة عن مسيرة هذه المناضلة التي رحلت بعد أن أعطت للبلاد الكثير..
بشيرة بن مراد ونبيهة بن ميلاد وتوحيدة بن الشيخ وأخريات...
أمّا ثالث هذه الكتب، فهو كتاب "بشيرة بن مراد ونساء رائدات" وهو كتاب سلّطت فيه السيدة الدّو القايد الضوء على مسيرة المناضلة بشيرة بن مراد التي روت فصولا من طفولتها الى غاية تأسيسها سنة 1936 للاتحاد النسائي الاسلامي وعلاقتها بزعماء الحركة الوطنية على غرار  الحبيب بورقيبة والمنجي سليم.. ومما قالته بشيرة بن مراد ان أحداث 9 أفريل 1938 شكلت منعرجا بالنسبة للحراك النسائي «بعد حوادث 9 أفريل، المراة ولات مستعدة خير من قبل، وهذا نقيسوه في احتفالاتنا واجتماعاتنا».
وبيّنت بشيرة بن مراد البعد الاجتماعي والخيري والسياسي الذي اكتساه نشاط الاتحاد النسائي الاسلامي معرّجة على المضايقات التي كانت تتعرّض لها من قبل سلطات الاحتلال فقد استجوبت عديد المرات وتم سجنها سنة 1948 لمدة عشرين يوما فضلا عن ما عاشته بعد الاستقلال من اقصاء وابعاد عن الشأن العام.
كما سلّط الكتاب الضوء على شخصيات نسائيّة أخرى لعبت أدوارا حاسمة في حركة التحرير ومنهنّ المناضلة نبيهة بن ميلاد التي نشطت صلب الاتحاد النسائي الاسلامي قبل ان تنتقل الى اتحاد المرأة التونسية الذي تأسّس سنة 1944، وهو منظّمة مرتبطة بالحزب الشيوعي.. هذا الى جانب الدكتورة توحيدة بن الشّيخ وهي أوّل طبيبة تونسيّة تخرجت سنة 1936.. وقالت توحيدة بن الشيخ في شهادتها: «انّي مدينة لوالدتي بهذا النجاح، فهي امرأة ذكيّة وقفت بجانبي وهي أرملة وحرصت على تعليمي بكل حزم ونجحت».. وفي سنة 1945 كونت الدكتورة جمعية خيريّة أطلقت عليها اسم «دار القماطة التونسية» هدفها مساعدة العائلات الفقيرة في ما يخصّ احتياجات الأطفال والرضع».
كتاب يوثق مؤتمرات الاتحاد الوطني للمرأة التونسية
الكتاب الرابع والأخير الذي سنتوقّف عنده في هذا المقال يحمل عنوان «الاتحاد الوطني للمرأة التونسية ـ الجزء الأول 1956 ـ 1986» وتعرضت فيه الكاتبة السيدة الدوّ القايد الى مسيرة منظمة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية منذ فترة تأسيسه سنتي 1955 و1956 ثم انعقاد مؤتمره الأول سنة 1958 بدار الشغالين والذي انتهى بانتخاب هيئة مركزية ترأستها راضية الحداد وصولا الى المؤتمر الثامن الذي انعقد سنة 1986 بمدينة بنزرت.
وتضمّن الكتاب تغطية للمؤتمرات الثمانية بما فيها الخطابات التي ألقيت بالمناسبة والتقارير المالية والأدبيّة فضلا عن مجموعة من الصور النادرة التي ترصد النشاط النسوي صلب الاتحاد..
وممّا استوقفنا في هذا الكتاب التوثيقي الهام، ما جاء في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الحبيب بورقيبة في افتتاح المؤتمر الثالث للاتحاد سنة 1962 حيث تعرّض بورقيبة الى محاولة الانقلاب التي قادها الأزهر الشرايطي ضدّه قائلا:«على أنّكم تعرفون أنّي لا أخاف الموت فقد أشرفت عليه مرات لا حصر لها على أيدي فرنسا وتحت رصاصها وفي السّجون حيث عانيت المصائب وقسوة الاسمنت، ولكنّي أخاف على هذه الدولة ان تتفكّك وتنخرها الفوضى وتتقاتل هذه الجماعة مع تلك».
ومما جاء أيضا في الكتاب، معطيات قد تفسّر واحدا من أسباب انسحاب بشيرة بن مراد من المشهد النسائي سنة 1955، حيث تساءلت المناضلة اسماء الرباعي قائلة: «بعد الاستقلال، توقف نشاط بشيرة بن مراد وما نعرفش عندها علاقات باهية مع سعيدة ساسي (ابنة اخت بورقيبة) وإلا لا؟» في اشارة للدور الذي قد تكون لعبته هذه الأخيرة لابعاد بعض الوجوه المناضلة». ثم قدمت بشيرة بن مراد شهادتها قائلة: «في 3 أيام، بعثلي الزعيم الحبيب بورقيبة وسألني آش ننوي القيام به، مازلت ما جاوبتش والجماعة تلموا وعملوا هيئة الاتحاد النسائي وغيروا اسم الاتحاد النسائي الاسلامي... ومن وقتها ما اتصل بيّ حدّ من الاتحاد النسائي الجديد وقعدت بقدر نشعر وكأن جميع نساء وبنات واولاد تونس بناتي واولادي.. لو كان ما عملتش هكة راني ضعت»..
السيدة الدّو القايد في كلمات

مناضلة من مواليد سنة 1936 بصفاقس واعلامية متقاعدة من اذاعة صفاقس وكاتبة ومنتجة برامج اذاعيّة، انخرطت في الحراك النسوي والنشاط السياسي بالجهة.. وهي كذلك كاتبة مسرحية وقصصية، عضو اسرة تحرير مجلة المرأة ومراسلتها بالجنوب، عضو عامل بجمعية حقوق المؤلفين، عضو اتحاد الكتاب التونسييين، ورئيسة جمعية محمد الجموسي للموسيقى والفنون ومتحصلة علي عدة أوسمة وشهائد تقدير على المستوى الجهوي والوطني والدولي.
شيراز بن مراد

الثلاثاء، 19 مايو 2015

هذا ما كشفه المتوّجون بجائزة الكومار شكري المبخوت وجمال الجلاصي ونبيل قديش عن رواياتهم

في إطار تظاهرة «ربيع الكتاب»، استضاف صالون ناس الديكاميرون للآداب والفنون المتوّجين الثلاثة بجائزة الكومار لسنة 2015. ومثلّ اللقاء الذي انتظم بشرفة المسرح البلدي ونشطه الباحث في الفلسفة والجماليات عدنان الجدي فرصة كشف خلالها الضيوف الثلاثة شكري المبخوت وجمال الجلاصي ونبيل قديش عن رؤيتهم لعالم الرواية.
شكري المبخوت: الوظيفة الأساسيّة للأدب هي إمتاع القارئ
اعتبر الكاتب شكري المبخوت الحائز على جائزة الكومار الذهبي وكذلك على جائزة البوكر عن رواية «الطلياني» أنّ في مؤلفه جانبا تأمليا حاول فيه ايجاد رابط ومعنى لأحداث مفكّكة. وقال انّه بعد مضي حيز زمني لا بأس به وتوفر مسافة ضرورية عاد الى فترة شبيهة بما نعيشه اليوم من تغيّرات.. وذكر المبخوت انّ أحداث روايته دارت في المناخ السياسي الذي عرفته تونس في صائفة 86 ـ 87، فترة بلبلة شابتها المخاوف والآمال بين التفجيرات والمظاهرات وحالة الرعب التي عاش على وقعها التونسيون مع خريف الزّعيم الحبيب بورقيبة. وأشار المبخوت الى أنّ خطاب 7 نوفمبر كان آنذاك بمثابة المتنفّس وان كانت هناك وقتها مخاوف لدى عدد من المثقّفين.
وأضاف الكاتب انّ روايته ليست سياسية، بل ربما كان الجانب السياسي هو البارز فيها، لكنّها لبست لبوسا تخييلية وانسانيّة وهو ما لا يستطيع المؤرّخ فعله، فبناء الشخصيات كان بناء نفسيا أكثر منه سياسيا ولعل الشغل الشاغل في الرواية ـ دائما وفق المبخوت ـ هو التقاطعات ما بين ماهو اجتماعي وسياسي..
وبيّن المبخوت انّه لا يزعجه أن يقال عن روايته انّها كلاسيكيّة او اشتراكيّة او سياسيّة، فالمهمّ بالنسبة إليه هو «المتعة» وهي وظيفة أساسية للفن الى جانب ما تحمله الرواية من جديد في التصوّر العام والمقاربة.
جمال الجلاصي: روايتي سلطت الضوء على علي بن غذاهم "المصلح المضاد"
ثم تولى الباحث عدنان الجدي تقديم رواية «باي العربان» التي فازت بجائزة لجنة التحكيم في مسابقة الكومار قائلا انّها رواية تطرقت لمسيرة ثائر من ثوار القرن التاسع عشر ألا وهو علي بن غذاهم، معتبرا انها رواية مخاتلة في خاماتها السردية وفي اعادة كتابة المواد التاريخية متخلصا الى صورة أخرى عن علي بن غذاهم حيث ينافس الجانب التخييلي الجانب التاريخي..
ومن جهته قال جمال الجلاصي أن أحمد بن ابي الضياف المؤرخ الرسمي و"كاتب سرّ" الباي شوّه صورة المناضل علي بن غذاهم الذي كان يمثل المصلح المضادّ للموجة الاصلاحيّة الرسمية والتي كانت بمثابة الحركة الفوقية التي لم تمس عمق تونس.
وفي السياق نفسه، اشار جمال الجلاصي الى انّ المجلس الأكبر للباي كان يعدُّ تونسيين إثنين فقط (أحمد بن ابي الضياف وسوسو بيشي) واما الآخرون فهم من الأتراك. وقال جمال الجلاصي انه أراد ان يعود الى ما هو جميل في القرن التاسع عشر رغم تعثراته، فهذا القرن فيه الكثير من الإضاءات وكانت فيه الأجواء الاجتماعية ايجابية على غرار التعايش بين الأديان الثلاثة والطابع السلمي لثورة علي بن غذاهم ضد المجبى.
نبيل قديش: «زهرة عبّاد الشمس» بعيدة كلّ البعد عن الواقعيّة الفجّة
ومن «الطلياني» و«باي العربان» الى رواية «زهرة عبّاد الشمس» للكاتب نبيل قديش والتي حازت جائزة الاكتشاف في مسابقة الكومار.. وقال الباحث عدنان الجدي انّ الرواية تعتمد على الجانب العجائبي الذي وقع استنطاقه انطلاقا من الخامات التونسيّة والخيال الشعبي التونسي..
ومن جهته قال الكاتب نبيل قديش انّه استلهم الفكرة الأساسيّة لروايته من الميثولوجيا الاغريقيّة.. وذكر صاحب رواية «زهرة عبّاد الشمس» انّ مؤلفه بعيد كل البعد عن الرواياتالواقعيّة الفجة ويعكس من خلال شخصيّة البطل «عزازير» زخاف فلسفية وتأملية في علاقة المخلوق بالخالق..
وذكر نبيل قديش انه لم يسقط في روايته في مستنقع الثورة مثل عديد الكتاب وأنّ الروائي بحاجة الى وقت والى مسافة من الأحداث الآنية وإن كان أشار اشارات طفيفة الى الارهاب والى جنودنا البواسل.
شيراز بن مراد

عرض «الزڨلامة» للسعد بن عبد الله: خيمياء موسيقية شعبية من تونس المنسية

«الزڨلامة» (يعني الطبلة) هو عنوان العرض الموسيقي الراقص الذي قدّمه المخرج لسعد بن عبد الله بمشاركة الفنانين رشيدي بلقاسمي والشاب بشير يوم الجمعة 15 ماي بقاعة الريو. عرض إجتمعت فيه عناصر الجسد والصوت والإيقاع لتروي فصولا من «تونسيتنا» ومن «هويتنا الشعبيّة» بكلّ ما تعجّ به من أوجاع ومن حبّ للحياة.
من على ركح طغت عليه العتمة، انبثقت شيئا فشيئا الروايات والأحاسيس والإيقاعات والحركات.. يقرع الزڨلام (الطبال) طبله فيتعالى ذلك الايقاع الذي يسكن في دواخلنا منذ طفولتنا الأولى، ذلك الايقاع الذي طالما سمعناه في أفراحنا فتهيج فينا تلك «الخيمياء» التونسية الشعبيّة المخصوصة، تلك «الخيمياء» التي تتحرر بها الأجساد من قيودها فتنشرح الرّوح وتنفتح المسام على حكايات غرامنا المخفيّة، على قصص عشقنا الممنوع، على حلم الأرض الموعودة التي لم تف بوعودها، على حنان تلك الأم البعيدة، على خيبة تلك الحبيبة الخائنة.
من «قاع خابيتنا» الغنائية التونسية ينهل لسعد بن عبد الله، فيخيط عرضا يعلو فيه الصوت، صوت الزڨلام (الشاب بشير) وطبلته ومعها حركات الرڨاص (رشدي بلقاسمي)، ثلاثية الجسد والصوت والطبل المتجانسة التي تقودنا الى صميم «التخميرة» فتطفو على السطح شذرات من ذاكرتنا الفردية والجماعيّة، تلك التي تحكي الهموم الصغرى والهموم الكبرى، هموم الفرد والبلد.
ومن الأغاني التي جاءت في عرض «الزڨلامة»، نذكر «آمان آمان يالماني» و«الأمريكان» و«دوّر دوّر» وغيرها من المقاطع الموسيقية التي تحيل على ما عاشته البلاد من ويلات زمن الاستعمار، على معاناة الفلاح الذي يُفتكّ منه محصوله ويصبح «خماسا» لدى الأجنبي، على عذابات «الربطيّة»، على جراح العشاق، على الزيتون الذي لم يثمر، على زهر اللوز الذي لم يتفتّح ومع ذلك لا يستسلم الجسد، جسد رشدي بلقاسمي المتحرك المتخمّر المرتعش الذي يفيض طاقة وابتسامة وتعلقا بالحياة.
يرقص بلقاسمي رقصاتنا الشعبية بإيقاعاتها المختلفة، البونوارة والفزاني والعلاجي والعجمي وغيرها ليروي ثراء الريبرتوار التونسي الذي يكاد يندثر بعد أن أصبنا بمحنة «فقدان الذاكرة»، نسينا من نحن وما هي حكاياتنا وأصولنا ومعاناتنا، لكن يبقى هناك أمل ضئيل، حبل رقيق (يظهر في أول مشاهد عرض «الزڨلامة» يشد خصر رشدي بلقاسمي) يربطنا بجذورنا الأولى ويمنعنا من أن نسقط في فخّ النسيان.
طبلة، رقصة، وشم، إيقاعات تونسية، صوت مؤثر، ضوء خافت، قارورة بوخة هي العناصر الفنية التي بنى عليها لسعد بن عبد الله عرضه ليرسم لوحة تونسية شعبية مميّزة حضر فيها البلد بعبقه الخاص، بوجيعة ناسه وبجمال روحه في حراك لا ينقطع، لا ينضب، لا يملّ ولا يكلّ، فهذه هي ملامح تونس التي غالبا ما ننساها!
تنطلق عروض «الزڨلامة» بقاعة الريو بالعاصمة أيام 22 و23 و24 ماي 2015.
شيراز بن مراد

الثلاثاء، 12 مايو 2015

«يا له من ربيع!» لحفيز ضو وعائشة مبارك: آه، لو لم تكن هذه الأجساد موجودة!

لو لم تكن هذه الأجساد موجودة، هل كانت الثورة تتحقّق؟ من كان لِيحمل الكلمة، من كان يُطلقُ الصرخة؟ من كان لِيدفع الحواجز ويحتلّ السّاحات؟ أليست هذه الأجساد.. هذا البحر المتموّج من الأجساد التي تدفقت كالسيل على اليابسة في الشوارع لتقول كلمتها ولتعبر عما يختلج في أعماقها..
حول هذا الجسد الذي غزا الفضاء العام بعد عقود من الغياب والتغييب، تمحورت أطوار عرض «يا له من ربيع!» (بالفرنسية Sacré Printemps) لحفيز ضو وعائشة مبارك، والذي قُدم في اختتام تظاهرة «تونس عاصمة للرقص 2015» يوم السبت 2 على ركح المسرح البلدي بالعاصمة.
رؤية إستثنائية تلك التي ألقاها الثنائي حفيز وعائشة على «الربيع التونسي»، رؤية الفنان الذي يرصد الأحداث السياسية والاجتماعية بطريقة مختلفة عن سائر الناس فيترجمها ركحيا وجماليا مقدما قراءة تخاطب الروح وتسمو عن الصغائر والحسابات الضيقة.
يصدح في بداية العرض صوت إمرأة، صوت الفنانة سنيا مبارك منشدا الحرية والربيع قبل أن يفسح المجال لـ"بطل" العرض آلا وهو الجسد... تتسلل الأجساد المتحركة شيئا فشيئا بين الأجساد الجامدة، فتملأ الركح حياة.. شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، تتسرّب الحركة إلى الساحات ومعها ترتسم ملامح حياة جديدة، أجساد تهتف، تنادي، تطالب بالرحيل.. أجساد هائجة، مائجة، غاضبة، موجوعة، منفعلة في حراك أولي يقطع مع سنوات من الجمود..
يرسم حفيز ضو وعائشة مبارك في عرضهما الراقص «يا له من ربيع!» ملامح ربيع بشري هائل، إرتسامات انفجار جسدي مُدو، فوضى الحواس المتهافتة على الحياة، أطياف كتل بشرية تتنقل هنا وهناك كما لم تتنقل من قبل، تعابير جسمانية ثائرة في فضاء عام جديد.. معالم فضاء تونسي بمقومات مستحدثة فرضتها أحداث سياسية مستجدة..
يجري حفيز ضو وعائشة مبارك والفريق الراقص الذي يصاحبهما على الركح، يجري الجمع، يُحلّق الجمع، يرقص الجمع، يتمادى في الحراك الى حدّ الانهاك، الى حدّ الموت، فاليوم وقبل الغد يجب على الجسد أن يعبر، يجب على الجسد أن يلفظ ما بداخله من قمع ومن إقصاء ومن حرمان ليقول كلمته.. الكلمة التي انتزعت منه والتي سلبت من ذهنه وفمه.. مجموعات أو فرادى، رجالا أو نساء، عاقلين أو مجانين، آملين أو مقهورين، تحتل الاجساد «الفضاء الأكبر» لتكتشف حجمها الحقيقي وقدرتها على التمركز والتعبير..
كالسيل الذي لا يمكن أن يتوقف، كالمجنون الذي يكشف جنونه، كالموجوع الذي يقول وجعه، كالسعيد الذي يُشهر فرحه، كالسائل الذي يعدد مطالبه، كالثائر الذي يصرخ غضبه، تتناسل الحركات لتروي فصولا من حكاية «ربيعنا التونسي»، حكاية الجسد قبل أيّ شيء آخر، هذا العابر الهش والقوي في آن والذي لولاه لما كانت هناك ثورة..
لوحة بعد لوحة، يُنطِق الثنائي حفيز ضو وعائشة مبارك هذا الجسد ليروي الغضب والآمال، ثم الانتصارات الصغيرة وبعدها الخيبات وعودة الامل مجدّدا، كل ذلك عبر لغة الجسد وحدها وهو التحدي الذي توفّق الثنائي في رفعه بعيدا عن آلاف الكلمات التي قيلت وانسابت وهدرت حتى فقدت مدلولها..
أليس الجسد هو المحرك الأوّل، ذاك الذي تلقى أولى طلقات النار، ذاك الذي تحدى الأسلاك الشائكة، الذي تدفق واندفع في الساحات عندما كانت الكلمات ضبابية والأفكار متباينة.. آه، لو لم يكن هذا الجسد موجودا، حرّا ومندفعا، من كان لِيحمل الكلمة؟
شيراز بن مراد