«يملكون كل شيء وقلوبهم كلها بغض، وحنا جواعة وعطاشة وقلوبنا كلها حب».. هذا ما ردّده أحد ابطال مسرحية «مراحيل» للمخرج حافظ خليفة والتي عرضت في موفى الاسبوع الفارط بقاعة الفن الرابع بالعاصمة.. جملة تعبر عن الكثير مما يعيشه ابطال المسرحية، هؤلاء الفارون من ظلم الحكام الطغاة والذين اختاروا الالتجاء إلى كهف بالجبل الابيض بعيدا عمن أعماهم الذهب الاسود وعن التكفيريين وكارهي المرأة والمتربصين بها وغيرهم ممن يريدون فرض احكام «الوالي» دون نقاش وبكل وحشية… وتتطرّق مسرحية « مراحيل» التي صاغ نصها الكاتب علي دب الى موضوع انساني شائك ذي علاقة بالشعوب الذي تنغلق على نفسها رافضة الاعتراف بحق الاختلاف وبالحرية، فتراها تضطهد فئات منها وتلاحقهم في محاولة لتدجينهم ولتقييد احلامهم وحتى لقتلهم..
ويثير الكاتب بالخصوص اشكاليتي المبدع والمرأة ومكانتهما في المجتمعات الظلامية التي تتهجم على هاتين الفئتين بصفتهما كيانين يصبوان الى الانعتاق والتحرر من القيود والاطواق التي تضعها التركيبات المجتمعية التقليدية.. وفي السياق نفسه، تتعرّض «مراحيل» بلغة مسرحية غير مباشرة الى الوضع الذي تعيشه بلدان الربيع العربي والى المنحى الذي اتخذته بعض الثورات على غرار تونس ومصر حيث أضحى الاختلاف جريمة والسّفور عهرا والشِّعر خطرا والكلمة الحرة انقلابا والخارج عن الملّة كافرا يستحق القتل، كل ذلك في نقد واضح للسلط القامعة سياسية كانت أم دينية وفي محاولة لاعلاء صوت التائقين للحرية وللتحليق في الفضاءات الرّحبة..
وقد سندت المسرحيّة رؤية اخراجية مبدعة فضلا عن تميّز الديكور والاضواء وتحرك الممثلين (علي قياد، أنور بن عمارة، أسماء بن حمزة، رياض الرحومي، مسعودة الزرقاني، محمد أمين قمعون، كامل حداد) على الركح بطريقة تشدّ انتباه المتفرج لجماليتها الفائقة حتى أنّ بعض اللوحات بدت وكأنّ واضعها ساحر سهر على رشق نجوم هنا، وعلى خلق سراب هناك (مشهد المعدمين)، وعلى نفخ حياة في لوحة انعدمت فيها الروح والألوان، وعلى إشاعة الإحساس بالأمل والحلم في صلب الظلام، وغيرها من المشاهد الاخرى التي أكّدت لنا ان حافظ خليفة سعى في عمله هذا الى استخراج رحيق مسرحي نادر ينشد الجمال بكل ما في هذه الكلمة من معان في عالم فقد مقومات الإنسانية وأضحى الدم والظلام من سماته الأساسية… «مراحيل» سنفونية بصرية تشدو الحرية والحق في الاختلاف في زمن الرايات السوداء ومن أعمى الذهب الاسود بصرهم وبصيرتهم.
شيراز بن مراد