الثلاثاء، 27 نوفمبر 2012

مانـموتش للنوري بوزيد: تـــونــــس، «امرأة» كـلّ يـــريـدهـــا عـلـى مــقــاســـــه


بعد خيبة العرضين الأولين اللذين لم تتوفّق فيهما إدارة أيّام قرطاج السينمائية في عرض شريط «مانموتش»، تمكّن أخيرا مرتادو المهرجان من اكتشاف مولود النوري بوزيد الجديد.. فما هي الرسالة التي أراد بوزيد ان يمرّرها، وماذا قصد بعبارة «مانموتش» التي فاحت منها رائحة التحدّي والاصرار الفنّي في ظلّ ما يتعرّض إليه الإبداع اليوم من تهديدات..
 الفيلم لم يكن كما توقّعنا حيث فاجأنا بوزيد بتيمة أشمل تتعلّق بمحاولة البعض التحكّم في تونس، هذه المرأة الجميلة، كلّ من منظوره، إمّا بالسعي الى «تلحيفها» ووضعها عنوة على سكة التديّن، أو بإبعادها عن هويّتها العربيّة الاسلاميّة.. وبين هذه الرغبة وتلك يتعذّب الجسد التونسي ويتمزّق كيانه وتهتزّ روحه من فرط قوّة التجاذبات التي تسعى إلى ارضاء النظرة الخاصّة والضيقة، لا إلى اعلاء صوت الجميع في كنف الاحترام والتعايش السلمي..
ويروي «مانموتش» المعاناة التي تعيشها صديقتان (نور مزيو وسهير بن عمارة) في الأيّام الأولى من الثورة التونسية
، ووضّح النوري بوزيد أنّ أحداث الفيلم تدور في الفترة الفاصلة بين سقوط نظام بن علي الى غاية أحداث القصبة2.. وقد شكّلت الأجواء السياسية المنفلتة والمشحونة آنذاك المسرح الذي تنقلت فيه بطلتي الفيلم زينب (نور مزيو) التائقة إلى الحرّية وإلى ممارسة مهنة تصميم الأزياء رغم محاولة أخيها الاسلامي ـ الخارج لتوّه من السجن ـ منعها من ذلك وسعي خطيبها إلى إلباسها الحجاب، وعائشة (سهير بن عمارة) الفتاة المحجبة التي تشتغل بأحد المطاعم لتلبية حاجات عائلتها والتي يحاول «عرفها» اقناعها بالتخلي على خمارها وإقامة علاقة جنسيّة معه..
وقد انطلق النوري بوزيد من معاناة هاتين الفتاتين لا لينقل قضايا المرأة فقط بل ما يهزّ جسد تونس اليوم من تناقضات وتجاذبات، كما حاول مخرج «ريح السد» و«مايكينغ أوف» ان يوازي بين جسد المرأة وجسد تونس الذي أصبح عرضة لكلّ أنواع التحرّشات.. فكيف لهذا الجسد (جسد المرأة أو جسد تونس) ان يقاوم ويصمد في وجه كل الرّياح السياسيّة والايديولوجيّة التي تعصف به؟
لقد أماط المخرج النوري بوزيد اللثام على الصّراع الذي حمي وطيسه في تونس مؤخّرا قبل ان يراه كثيرون، استطلعه بحسّ الفنان قبل ان تعيه البقيّة وهنا تكمن طلائعية المبدع الذي يستشعر نبضات مجتمعه ويستشرف ما هو قادم متجاوزا قصر نظر الآخرين..
ولأنّه إذا تعذب جسد تونس، تعذّب جسد أبنائها، استنجد النوري بوزيد بهذه الصورة ليجسّد حالة «الاحتضار» التّي تمرّ بها البلاد من خلال تصوير عمليّة تكفينه البطيئة إذ شاهدنا بالفعل مراحل من تغسيله بعد وفاته، وفاة الفنان الذي يهدي الجمال والحلم في بلد لا يولي الإبداع وحرية التعبير المكانة التي يستحقّها..
«مانموتش» خاطب بلغة سينمائيّة جميلة، الحيّ فينا ليدفعه إلى مقاومة الهرسلة التي تتعرّض إليها تونس من قبل أطراف تريد ان يكون البلد على مقاسها هي وحدها..
شيراز بن مراد

الخميس، 22 نوفمبر 2012

"ديقاج" لمحمد الزرن: حتى لا ننسى لحمة أبناء سيدي بوزيد ضد قمع نظام بن علي


أهدى المخرج محمد الزرن فيلم «ديقاج» الذي افتتح الدورة 24 لايام قرطاج السينمائية لروحي الشهيدين محمد البوعزيزي وحسين ناجي وهذا الأخير شاب اصيل مدينة سيدي بوزيد توفي يوم 22 ديسمبر2010 بعد ان انسدت الآفاق في وجهه فقرر ان يرمي بنفسه من أعلى عمود كهربائي..
ومن خلال هاتين الشخصيتين والمحيط الذي كانا يعيشان فيه حاول الزرن ان يرسم مختلف «عقد» النول الذي أهدانا سجاد الثورة التونسية.. وتعرّض الفيلم الوثائقي الذي صور أطوارا من القصبة 1 والقصبة 2  إلى  قضايا الفساد والظلم الذي يعاني منها مواطنو سيدي بوزيد والى «اللحمة» التي تجسدت بين المواطنين ومحامي الجهة واتحاد الشغل وكذلك بعض النشطاء السياسيين والتي لولاها لما توسعت رقعة الاحتجاجات..
هل نعرف البوعزيزي؟

سلّط محمد الزرن الاضواء على الايام الاخيرة من حياة محمد البوعزيزي وذلك من خلال شهادات لمجموعة من أصدقائه المقربين الذين تحدثوا عنه كشخص يحب الحياة وموسيقى الرقراقي والجلسات الخمرية رغم صعوبة الظروف وضيق الآفاق، وروى أحد أصدقائه كيف أصبح البوعزيزي مواظبا على الصلاة بينما نقل آخر تفاصيل ما حدث له مع عونة التراتيب فادية ومن ثمة توجهه نحو الولاية للتشكي غير أن الابواب أوصدت في وجهه، فقرر ان يحرق نفسه تعبيرا عن حالة اليأس القصوى التي بلغها..
المحامي خالد عواينيّة: «كانت هناك مؤشرات لزلزال قادم»

أظهر فيلم«ديقاج» الدور الذي لعبه محامو سيدي بوزيد في ثورة 17 ديسمبر ـ لا 14 جانفي مثلما أكد على ذلك أحد أصدقاء محمد البوعزيزي ـ فاحتجاجهم يوم 25 ثم يوم 31 ديسمبر ساهم في إشعال فتيل الثورة.. واستمع محمد الزرن بالخصوص الى شهادة المحامي خالد عواينيّة الذي ذكر انه كانت ثمة مؤشرات لزلزال قادم..  وكان عواينيّة رافق مواطني سيدي بوزيد في الوقفة الاحتجاجية التي نظموها يوم 18 ديسمبر 2010 أمام مقر الولاية وحثّهم على التظاهر.. فضلا عن المحامين أدلى  الناشط السياسي وعضو الحزب الديمقراطي التقدمي سابقا عطية العثموني بشهادته فأبرز الدّور الذي لعبه بعض سياسيي الجهة في حشد المواطنين وتحريضهم على مواصلة التحرك والاحتجاج بمعاضدة الاتحاد الجهوي للشغل وعلى رأسه علي الزارعي..  من ناحية أخرى سلط الزرن الاضواء على مجموعة من الشبان كانت تصوّر المواجهات التي دارت بين المواطنين والشرطة ومن ثمّ بثّتها على الانترنات وهو ما ساهم في كشف ضراوة القمع البوليسي وتمسك الاهالي بالتعبير عن مطالبهم..
«80 دينارا للمعتمد باش تقضي قضيتك»

وبطريقة غير مباشرة، طرح الفيلم  قضية أساسية وهي تفشي ظاهرة الفساد وبالتحديد الرشوة حيث ذكر أحد المستجوبين أنه كان على المواطن دفع 80 دينارا للمعتمد لقضاء شؤونه من وثائق إدارية وغيرها، هذا الى جانب الظلم الذي كان يشعر به الباعة المتجولون بسبب اقدام اعوان التراتيب البلدية على حجز «ميزان الخدمة» بطريقة متعسفة.. كما صوّر الزرن مشهدا مؤثرا لامرأة كانت بصدد مغادرة بيتها على الساعة الخامسة صباحا متوجّهة إلى عملها قائلة: «سأشتغل إلى غاية الساعة الخامسة مقابل 4 دنانير» وللمشاهد أن يفهم حجم معاناة فئات عديدة منا..
 شهادات من القصبة 1و2
كما نقل الزرن شهادات عن معتصمي القصبة 1 و2 والذين نادوا بإسقاط حكومتي محمد الغنوشي المتعاقبتين بعد أن حافظتا على بعض رموز من النظام السابق وكيف أدى الاعتصامان الى إبعاد الغنوشي وعدد من وزراء بن علي.. وبينما كانت بعض الشهادات مؤلمة وخاصة تلك التي عبر عنها بصمت صارخ من اختاروا «تخييط» أفواههم، جاءت شهادات أخرى في قالب طريف، ومنها ذلك المواطن الذي  أخرج رأسه من تحت «البطانية» ليقول إنّنا توانسة ولا يجب ان نزايد على بعضنا البعض..
«ديقاج» لم ينقل فقط شهادات مواطنين حول ما عاشه البوعزيزي وما تلا ذلك من أحداث ثورية بل وضع اصبعه على مكمن الداء أي معاناة العديد من التونسيين من التوزيع غير العادل للثروات وانسداد الافق أمامهم فضلا عن تفشي الفساد وظلم المسؤولين المحليين الذي لم يكن همهم خدمة المواطن بقدر ما سعوا إلى المحافظة على مناصبهم..

شيراز بن مراد

الثلاثاء، 13 نوفمبر 2012

"نيكوتين" لعاطف بن حسين: تونس للكل.. علمانيين وسلفيين


  • تماهيا مع الأجواء المشحونة التي تعيشها تونس اليوم, قدم المخرج عاطف بن حسين منذ أيام عملا مسرحيا جديدا جاء بمثابة طبق ملكي تنوعت فيه الأصناف أو بالأحرى التيمات ولو أنها لم تشذ عن قاعدة التجاذب والتناحر التي تهيمن حاليا على المشهد العام...
    فمن خلال قصة ثالوث (شاكرة رماح في دور المرأة المتحررة و عبد المنعم شويات في دور المتمرد وفؤاد ليتيم في دور الرجل الكلاسيكي والمعقد) يلتقي ذات ليلة بأحد الفضاءات الفنية, نقلت مسرحية "نيكوتين" أجواء تونس المتوترة بعد مضي سنة ونصف على الثورة دون أن تغيب عنها روح الدعابة والفكاهة..
    بحضور عدد من رجال السياسة –على غرار وزير الصحة عبد اللطيف عبيد وحمة الهمامي- جاؤوا الى قاعة الفن الرابع لمواكبة العرض الثاني من المسرحية, أفرغ عبد المنعم وشاكرة وفؤاد ما في جعبتهم من روح اندفاعية عبرت عن دواخلهم وعن رؤاهم إزاء عدد من القضايا الشائكة, ولعل من أهم ما سعت المسرحية لإبرازه هو عجزنا عن التحاور بصفة عادية, وعن التناقش بروح رياضية إذ غالبا ما نسقط في فخ التعادي والتصادم..

    و ل"تفسير" أزمة العلاقات التي أضحت تميز مشهدنا الاجتماعي و السياسي, عاد النص بطريقة فكاهية الى عاهاتنا النفسية وأمراضنا الخفية, فمنا من هو متعلق بأمه أكثر من اللزوم, ومنا من هو عاجز عن التعايش بسلام حتى مع محيطه العائلي وكلها عوامل تفسر شيئا من عصبيتنا الزائدة ومن عدم قدرتنا على التواصل مع الآخرين بصفة طبيعية... فلا عجب إذن في أن نرى نواب المجلس التأسيسي يتصايحون وسياسيينا يتناحرون ومسؤولينا يتدافعون مثل "حيوانات بشرية" خرجت لأول مرة من حظيرتها, وهو ما جسدته المسرحية في بعض من مشاهدها...


    ومن الرسائل القوية التي تضمنها هذا العمل الذي قال عنه عاطف بن حسين إنه "موجه الى التونسي الذي يفكر ويتذكر", تلك التي دعت الى التعايش السلمي بين كل التونسيين مهما كانت انتماءاتهم, سواء كانوا علمانيين أو سلفيين, وذلك من خلال لوحة نقدية فضحت سخافة التخوفات والأفكار المسبقة التي يحملها بعضنا على البعض الآخر.. فالعلماني أو السلفي هو تونسي قبل كل شئ ولا مفر من أن يتعايشا طالما لم يلجآ الى العنف.


    لقد شدتنا "نيكوتين" بروحها النقدية التي تجسدت في عديد اللوحات ومنها تلك التي تطرق فيها الممثلون الى "أوساخنا" وكم نستحق من وقت لإزالة "اوساخنا الداخلية", أو تلك التي تحدثت عن الشعب والنخبة لتؤكد بطرافة أن "الشعب 4 أفراد والبقية لكلها نخبة" أو تلك التي نادت فيها شاكرة بحرية المرأة وحقوقها وغيرها من المواقف الساخرة التي نقلت بسلاسة صفحات من حياة التونسي سنة 2012. كما شدتنا
    رؤيتها الإخراجية التي يظهر فيها كل ممثل معزول في عالمه الخاص قبل أن ينطلق نحو الفضاء الرحب, نحو الآخر ونحو الصراع حتما حتى بدا الركح  كحلبة للمواجهة وللتلاسن تماما مثلما هي الساحة العامة اليوم  في تونس...

    "نيكوتين" تطرقت بلهجة ساخرة الى أجواء القلق السائدة في مجتمعنا بما فيها من تجاذبات ورؤى ضيقة كما نادت الى التحابب والتفاهم والتعايش السلمي, لا أن ننغص وجودنا ب"نيكوتين" العداء والتباغض بما يحول الحياة الى جحيم لا يطاق..

    شيراز بن مراد

    تصوير محمد كريم العامري

السبت، 10 نوفمبر 2012

Comment

...Comment revenir à l'enfance
à l'inscousiance de la mer..
à la fluidité de la nuit..
à la sincérité de la montagne..
à l'innocence des cyclamens...
à la fraicheur des rivages...
à la limpidité de la méditerranée...
à la douceur des galets...
à la liberté des mouettes..
à la délicatesse des roses...
à l'allégresse de la fraise..
à la paix des nuages...
à la plénitude du soleil...
à ces vagues blanches et bleues qui ne cessaient de nous renouveler.. chaque jour un peu

الخميس، 8 نوفمبر 2012

مسرحية «قصرالشوك» تختتم مهرجان بغداد المسرحي

الفنان نعمان حمدة

 يستعد المخرج نعمان حمدة والممثلون الذين شاركوا في مسرحية «قصر الشوك» للتنقل الى العراق لاختتام مهرجان بغداد المسرحي وذلك يوم الثلاثاء 13 نوفمبر... وفي هذا الصدد صرّح لنا المخرج ان وزارة الثقافة العراقية وجهت إليه الدعوة لاختتام المهرجان وذلك بعد أن أعجبت بمضمون «قصر الشوك» التي عرضت في الدورة السابقة من أيام قرطاج المسرحية، مضيفا بأسف ألاّ أحد من وزراء الثقافة الثلاثة الأخيرين شاهد المسرحية...
وبخصوص الظروف الأمنية في بغداد، قال نعمان حمدة إنّه تلقى تطمينات من قبل المنظمين لا سيما وأنّ بغداد تستعد لأن تكون عاصمة ثقافية لسنة 2013، وتساءل حمدة «ما معنى أن نكون في أمان وحقوق الفنان مهددة وحرمته الجسدية مستهدفة؟ هذا هو الخطر الحقيقي الذي يتهدد الفنان أمّا الإشكاليات الأمنية فهي ثانوية ولن تثنينا عن تقديم أعمالنا».
من ناحية أخرى، وافانا المخرج ببعض تفاصيل المسرحية الجديدة التي سيقدمها في شهر أفريل القادم وهي من انتاج التياترو وتحمل عنوان « سيشوار».. ويتمحور نصها الذي صاغه  نعمان حمدة حول موضوع المرأة وما تعيشه من قضايا وذلك من خلال قصة حلاقة تغادر محل عملها لقضاء شأن ما لكنها لا تعود، فتجد الحريفات أنفسهن «سجينات» وضعيتهن لينطلق الحوار والجدل حول الممكن وحدوده وبين ثنايا المكتسب والمهدد منه .. 

وأشار نعمان حمدة إلى ما يعج به تاريخ تونس من أسماء نسائية ـ على غرار عليسة والكاهنة وعزيزة عثمانة وغيرهن كثيرات ـ وكيف كنّ مؤثرات وفاعلات وناحتات لتاريخ هذا البلد، لتنقلب الحال اليوم ونصبح نشكك في حقوق المرأة ومكانتها ونتحدث عنها ك"مكملة" للرجل! وهو ما دفعه لإنجاز هذا العمل الذي يدعو للتفكير حول واقع المرأة التونسية الآن وهنا.


شيراز بن مراد

الاثنين، 5 نوفمبر 2012

فيلم «بابل» لإسماعيل وعلاء الدين سليم ويوسف الشابي: غوص سينمائي شـعـــري فــي تـراجـيديـا مخيمـــات الشوشــة

عالم تشّكل ثمّ اضمحل... نعم حدث هذا على الأرض التونسية وبالتحديد في منطقة الشوشة الحدودية أيّاما قليلة بعد اندلاع الثورة الليبية، فقد توافدت مئات الآلاف من اللاجئين من جنسيات مختلفة على الحدود التونسية الليبية طالبين «وقفة انسانية» بعد أن اشتدت المواجهات بين الثوار وكتائب القذافي..
 
فكيف عاش هؤلاء؟ وكيف قاوموا العوامل الطبيعية الصعبة؟ وكيف صبروا على إنسانيتهم المفقودة لولا بصيص الأمل الذي ظلّ قائما؟ حول هذه التراجيديا الإنسانية التي هجّر فيها الاف من البشر من بيوتهم وأراضيهم ومواطن عملهم، أنجز الثلاثي إسماعيل وعلاء الدين سليم ويوسف الشابي فيلما وثائقيا نقل بلغة سينمائية شعرية أكثر من معبّرة قصة «عالم» ولد في قلب الخلاء، أبطاله لاجئون وجنود ومتطوعون إلتقوا في محاولة لإرساء مقومات «شبه حياة» تحفظ  شيئا من كرامة عابرين غدر بهم الزمن.


وقد إختار المخرجون الثلاثة الذين حلّوا بمنطقة الشوشة خلال شهر مارس 2011 مواكبة اللحظات الأولى كما الأخيرة من اجتياز اللاجئين الحدود بما فيها من حيرة ومن توّجس من المجهول إلى غاية مغادرتهم الأراضي التونسية ومارافقها من انتظار ومن رغبة في تبديد هذا الكابوس الحقيقي... وبين هذا وذاك اقتفى الشريط أثر تفاصيل عديدة من حياة متساكني المخيمات ومنها المظاهرات التي خرج فيها أصيلو البنغلاديش احتجاجا على أوضاعهم الصعبة وكذلك العروض الفنية والرياضية التي انتظمت للترويح عن نفوس من اضطروا للفرار من ليبيا وأقاموا في ظروف صعبة في هذه الرقعة من الأرض.


ولعل اللافت للانتباه في فيلم «بابل» هو مقاربة المخرجين الذين حاولوا الإلمام بكافة أطوار هذه «المدينة» التي خرجت من لا شيء لتلبي حاجة ألوف مؤلفة من أناس فروا من الحرب
، فتتضامن معهم في محنتهم في انتظار الانفراج. كما سخروا كاميراهاتهم لكشف معاناة لاجئين وجدوا أنفسهم يقاومون ظروفا غير إنسانية رغم المجهودات الضخمة التي قامت بها الدولة التونسية ومنظمات المجتمع المدني وكرم عديد التونسيين الذين فاقت تبرعاتهم المنتظر، فكيف لإنسان أن يعيش في سجن كبير تنعدم فيه أبسط المرافق الأساسية وكيف له أن يحافظ على كرامته عندما يتربص به الجوع والبرد وقلة ذات اليد؟

مخرجو «بابل» لم ينسوا في فيلمهم الوثائقي رؤاهم وحسهم السينمائي الذي لازم تقريبا كل المشاهد، فهذا مشهد سريالي لمخيمات تتذبذب وكأنها سراب وهذا مشهد مميز لشمس تشع بين أجساد اللاجئين، وآخر سماوي ليلي يستحضر فسحة الافاق رغم ضنك العيش.. إسماعيل وعلاء الدين سليم ويوسف الشابي بحثوا أيضا في عشرات الوجوه عما يمكن أن تخفيه هذه الواجهات الجلدية من أحاسيس الغضب والأمل، وهو تمش أعطى للفيلم طابعا شعريا خاصا
، إذ نقلت بعض المشاهد غضب وثورة بعض اللاجئين، ونذكر هنا المقطع المؤثر الذي إنتفض فيه لاجئو البنغلاديش، هذا فضلا عن مشاهد الطبيعة الصامتة التي عبرت بقحطها وبردها عن عجز المناخ مؤازرة من هم في حاجة إلى ذلك..

كما طوى التاريخ صفحاته على مدينة بابل الأسطورية التي عرفت نهضة وازدهارا قبل أن يتخلى عنها سكانها، طوى التاريخ مجددا صفحة أخرى من كتابه على «بابل تونس
» أو مخيمات الشوشة لتظل محفورة في الذاكرة وفي بعض الأعمال الفنية كشاهدة على واحدة من تراجيديات القرن الحادي والعشرين.

يذكر أن فيلم "بابل" تحصل على الجائزة الكبرى لمهرجان مرسيليا السينمائي (جويلية 2012) وهومن انتاج شركة إكزيت ولم يحض بأي دعم  من قبل وزارة الثقافة. 

شيراز بن مراد

الخميس، 1 نوفمبر 2012

لا للعنف, نعم للتوافق

  • إلى ماذا تحتاج تونس اليوم؟ توجهنا بهذا السؤال إلى الجامعية والكاتبة نورة بورصالي وإلى الأديب بوراوي عجينة وكذلك إلى رئيس جمعية «السلم بأيدينا» ماهر الساحلي، فجاءت إجاباتهم مختلفة كل حسب جوهر اهتماماته... فبينما أكّدت الأستاذة نورة على أهمية التوافق وتشريك الكفاءات والنخبة في اتخاذ القرار، شدّد الكاتب بوراوي عجينة على أهمية الفعل الثقافي كمحدّد لهوية الثورة إذ أنّ هذه الأخيرة لا يمكن أن تنجح ـ حسب رأيه ـ إذا اقتصرت على السياسة والاقتصاد... أمّا رئيس جمعية «السلم بأيدينا» فقد أكّد على ضرورة إرساء ثقافة بديلة تقطع مع العنف السائد مشيرا إلى الدور الذي يجب أن تضطلع به الدولة في وضع قوانين زجرية وتطبيقها على كل من يدعو أو يحرض أو يمارس العنف.


    نورة بورصالي (جامعية وكاتبة): «مطلوب التوافق والتوافق ثم التوافق»
    «يبدو لي انّ الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي متأزّم جدّا.. وقد تكون هذه الأزمة عادية في ظلّ المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها البلاد، اذ ليس هناك تغيير دون صعوبات وعثرات لكن اذا تواصل الوضع على ماهو عليه فسيكون مستقبل تونس في خطر..
    شخصيا أعتبر انّ المسؤولية في الوضع الحالي مشتركة بين كل الأطراف: قوى مضادّة للثورة تحاول إفشال المسار الإنتقالي وتعطيل حياة المواطنين وكذلك مسؤولية السلطة الحاكمة التي تعمل ببطء شديد بما لا يخدم تحقيق أهداف الثورة.. ورغم الثّغرات والهفوات، ينبغي التدارك من خلال إشراك الكفاءات بغضّ النظر عن انتماءاتها الايديولوجيّة والسياسيّة..
    ما نلاحظه أيضا هو حالة التشنّج التي أصبحت ميزة أساسية للحوار السياسي وهذا في رأيي ناتج عن التهافت على السلطة وتغليب المصالح الحزبيّة على مصالح البلاد وهو سلوك غير ديمقراطي خاصّة اذا اقترن بعدم احترام الآخر وبنزعة اقصائيّة واضحة للعيان..
    والمتابع للمشهد السياسي لابدّ أن يلاحظ محاولات النهضة البقاء في الحكم وقد عبّرت عن ذلك بتكبّر رافضة وجود حزب ينافسها وهو ما أدّى الى وقوع أحداث دامية في تطاوين بينما غاب عنها أن الانتخابات وإرادة الشعب هما وحدهما الكفيلتان بإفراز الفائزين في الاستحقاقات القادمة.. خطاب بعض قياديي نداء تونس أيضا ليس مقبولا وسأذكر على سبيل المثال خطاب لزهر العكرمي في الحوار الذي أدلى به لصحيفة «حقائق» ففيه شيء من التشنّج والاتهامات التي لا يمكن الاّ ان توتّر المسار السياسي..
    خلاصة القول إنّ المعاداة المتبادلة تعكر الجوّ السياسي ولا تسمح بحوار رفيع المستوى يعبّر عن الشواغل الحقيقيّة للبلاد.. ويجب هنا التحذير من خطورة تواصل هذا التناحر الذي يمكن ان يؤدي الى أزمة وقد رأينا بوادرها الأولى في تطاوين..
    وبخصوص إقصاء التجمّعيين من المشاركة في الحياة السياسيّة أرى انّ القضاء هو ـ وحده ـ المؤهّل لإقصاء من التصقت بهم جرائم في العهد السابق، وان كنت اعتبر انّ الثورة قامت ضد التجمّع الذي كان مسؤولا عن منظومة الاستبداد..
    هناك أيضا مسؤولية بعض فئات من الشعب التي لم تفهم معنى الديمقراطية، فاختصّت في الفوضى وهو ما يهدّد قوانين التعايش السلمي وما يمسّ بمحاولات النّهوض بالبلاد.. على بعض المواطنين ان يراجعوا سلوكهم وان يقطعوا مع التسيّب والهمجيّة.. تصورنا انّ تضعنا الثورة على طريق نظام ديمقراطي حقيقي لكنّنا أضحينا ندافع عن المكاسب ولا نفكّر في تطويرها.. على السلطة ان تستمع لمواطنيها وان تفعّل العدالة الانتقالية (محاسبة ثم مصالحة) حتى نتمكّن من المضيّ قدما وبطريقة إيجابية في هذا المسار الانتقالي.
    وأغتنم هذه الفرصة لأوجّه لوما الى القنوات التلفزية التي تقلّصت فيها مساحة الحوارات السياسية وغاب عنها المجتمع المدني، بينما كان حاضرا في كل المعارك الإجتماعية وهذا تغييب خطير لأن الحياة لاتقتصر على القوى الحزبيّة ..
    كما لا يمكن ان نغفل عن ظاهرة خطيرة باتت تهدّد تماسك المجتمع التونسي ووحدته وهي ظاهرة تقسيم البلاد الى جزأين أي: العلمانيين ـ ولو انّهم مسلمون ـ والاسلاميين، هذا فضلا عن ظاهرة السلفيين أو بالأحرى المتزمّتين دينيا الذين يريدون فرض نمط مجتمعيّ بعينه بالعنف وكأنّ التونسيين كفار أو أنّ الإسلام حلّ بأرض تونس بعد الثورة!
    واليوم، نلاحظ والبعض يحتفل بتاريخ 23 اكتوبر، حالة من الإحباط ومن المرارة المتقاسمة، فالثورة التي كان من المفروض ان تفتح لنا أبواب التقدّم والتطوّر وان تحقّق البعض من الأهداف التي نادت بها، جلبت معها صراعات وتجاذبات تكاد تعصف بالبلاد، وفي رأيي مهما كانت اختلافاتنا السياسيّة أو الإديولوجيّة فإنه لا مفرّ لنا من التوافق: التوافق والتوافق ثم التوافق.. ولئن كنت لا أشاطر النهضة أفكارها فأنا اعتبر انّ لكلّ طرف منا مكانا في المشهد السياسي.. لابدّ ان نصل الى التعايش السلمي بعيدا عن التشنّج والعداء.. لابدّ ان نرتقي بالحوار السياسي وان نضع مصلحة تونس فوق كل الاعتبارات الحزبية.. كفانا تكالبا على الحكم.. فليس بمقدور اي طرف ان يحكم تونس بمفرده بل هي بحاجة الى توافق كل ابنائها مهما كانت اختلافاتهم.. على النهضة ان تحترم منافسيها ـ لا اعداءها ـ فالديمقراطية ليست هيمنة الأغلبيّة على الأقلية بقدرما هي احترام الأغلبيّة للأقلّيات.. فمن حقّ كل مواطن ان يشعر بالسعادة في بلاده وعلى الجميع ان يحترم قيم المواطنة والمساواة والتعايش السلمي واحترام الآخر.

  • الأديب بوراوي عجينة: «الثقافة هي التي تحدّد هوية الثورة في أية حضارة»
    بصفتي كاتبا ومشاركا في الحياة الثّقافية منذ قرابة ثلث قرن ألاحظ أنّنا في مفترق طرقات، فكل طرف سياسي يسعى الى كسب مواقع واقصاء غيره من الأطراف... الاّ أنّ المحيّر في الأمر انّ الثقافة ومنذ سنة عوض ان تتقدّم ظلّت تتقهقر وتواجه صعوبات عديدة خلافا للمجال السياسي الذي اصابنا بتخمة من المناقشات والصراعات... من موقعي الخاص أرى أنّه على المثقفين ان يسهموا في هذ الحراك المتجه الى الأمام وذلك بعدّة أعمال ارجو ان تتحقق قريبا، منها اعادة النظر في عمل وزارة الثقافة الذي يتحكّم فيه افراد قلائل مهما اجتهدوا لن يكونوا في مستوى ما ينتظره المثقّفون، وكذلك بإعادة النظر في تركيبة الوزارة واقحام كفاءات عالية في شتى اداراتها من مسرح وآداب وسينما وغيرها.. ثم ألم يحن الوقت لطرح مسألة المجلس الأعلى للثّقافة المجمد منذ عقود على ان تتوفّر فيه شروط كفاءة الأعضاء واستقلاليتهم والموارد المالية الكافية والقرار التطبيقي السليم، وأما الجمعيّات الثقافية فأحوالها يرثى لها وكذلك المندوبيات ودور الثقافة.. أليس من الطبيعي ان تجرى فيها انتخابات حرّة لاختيار الهيآت الملائمة لها ومدّها بامكانات مالية تسمح لها بالعمل واقتراح برامج ثوريّة تخدم الوطن.
    انّ النشر والتوزيع والانتاج على أبواب كارثة اذا لم يتحرك المثقّفون لضخّ دماء جديدة فيها واعداد تصوّرات جدّية والقطع مع الماضي الرتيب وضمّ أسماء جديدة لديها خبرة في المجال وإلّا ستكون النتيجة الانحدار نحو الهاوية التي سيخسر اثرها الجميع من مسؤولين ومثقفين وابناء وطن..
    آن الأوان لنحيي ما أنجز في هذا الوطن وان نميّز بين ما كان صالحا وما كان فاسدا وان نضع برامج ثقافية قابلة للانجاز آجلا وعلى مدى متوسط وآخر بعيد... ولئن تعذّر على الوزارة القيام بأعمال ثقافية ذات مستوى رفيع متعلّلة بقوانين سابقة، أفليس من المنطقي في هذا العهد الجديد ان يعاد النظر في تلك القوانين وسنّ أخرى جديدة من قبيل دعم الوزارة نشر الكتاب والترفيع في شراء الكتب المطبوعة..
    نحن الآن في مفترق طرق يسعى فيه كلّ طرف الى ان يكون الرابح وان يجعل الآخر خارج اللعبة، والحقيقة انّ تونس امّ حضنها واسع لجميع ابنائها.. وأختم بالقول انّ الخطر السلفي وان كان يهدّد الثقافة فانّ على المثقفين ان يواجهوه بأعمال فنية تتناسب والمرحلة الجديدة وان يجدّدوا المضامين والأساليب، فالثورة لا تنجح ان اقتصرت على السياسة والاقتصاد بل ان الثقافة في أيّة حضارة هي التي تحدد هوية الثورة.. ورغم ما ينتباني وغيري من احساس بالضيم والظلم واليأس والرغبة احيانا إمّا في الخروج من حلبة العمل الثقافي والهجرة الى أرض الله الواسعة فانّ الأمل باق لكي نتجاوز هذه المرحلة الصعبة المعقّدة التي تحتاج الى مثقّفيها وكتابها ومفكريها حتى تتقدّم هذه البلاد المعطاء وتسهم في بناء الحداثة والتطوّر..»

  • ماهر الساحلي (رئيس جمعية السلم بأيدينا): «يجب ردّ الاعتبار للدولة وإرساء ثقافة تقطع مع العنف»
    إنَ اغتيال لطفي نقض تعتبر حادثة أليمة و خطيرة لأنّها عملية عنف صدرت عن مجموعة من الأشخاص يتقاسمون نفس الانتماءات و القناعات الإيديولوجية و السياسية ، قد يكون وقع الإعداد و التدبير لها مسبَقا ضدَ شخص يخالفهم الرَأي والانتماء و المواقف و هو العنف السياسي في أبشع مظاهره والمتمثل في التصفيات الجسديَة والاغتيالات.
    ومع الأسف، فإنَ هذه الجريمة جاءت كامتداد و كنتيجة طبيعيَة و منتظرة لأعمال العنف المتكرَرة والمتنوَعة التي تمَت الدعوة لها و تبريرها و التحريض عليها و السكوت عنها من قبل مسؤولين سياسيين في بعض الأحزاب و في السَلطة منذ مدَة، زد على ذلك حالة الإحباط و الاحتقان والحيرة التي يعيشها التونسيون منذ أواخر سنة 2010 وأضف إلى هذا كلَه التركيبة التاريخية و الثقافيَة لمجتمعاتنا الإسلاميَة التي يعدَ فيها العنف و الاغتيال ممارسة عادية وطبيعية لممارسة السياسة و للوصول إلى السَلطة أو الاحتفاظ بها. إنَ تنامي العنف المسكوت عنه سينجرَ عنه تقلَص و اضمحلال لدور الدولة و الذي يؤدَي بدوره لا محالة إلى تفشَي الفوضى والعنف وقانون الغاب.
    والحلَ في رأينا يكمن في اتخاذ تدابير سوف تؤتي أكلها على المدى القصير و المتوسَط والطويل:
    ـ أمَا التدابير العاجلة فتتمثل في: 1) ردَ الاعتبار للدولة، المخوَل لها وحدها استعمال العنف الشرعي، و وضع القوانين الزَجريَة و تطبيقها على كلَ من يدعو أو يحرَض أو يبرَر أو يمارس العنف أيَا كان انتماؤه أو مركزه أو جاهه أو ماله. 

    2) بعث أطر للتواصل والتحاور و التشاور وتبادل الآراء و الوساطة للوصول إلى التوافق
    ـ أمَا على المدى المتوسط فتتمثَل التدابير بخصوص التنمية السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافيَة و التربوية و الجهوية والمحلَية، لأنَ العنف ينمو و يترعرع بتفاقم الظلم و الفقر و الخصاصة والجهل و غياب الثقافة.
    ـ أمَا الإجراءات الطويلة المدى فتتمثل في التأسيس لثقافة لاعنفية بديلة للثقافة العنفية السائدة من خلال مراجعة برامج ومناهج التعليم من أجل تنمية قيم و سلوكيات و أنماط حياة متماشية مع ثقافة السلم مثل الحل السلمي للنزاعات والحوار والبحث عن الوفاق واللاعنف و تنمية وتعزيز احترام جميع حقوق الانسان ودعم ضمان المساواة بين النَساء و الرَجال و دعم المشاركة الديمقراطيَة و تنمية ودعم التفاهم والتسامح و الإحترام والتضامن وتعزيز التواصل المشاركاتي و حرَية نقل المعلومات و المعارف ...

    شيراز بن مراد