الاثنين، 5 نوفمبر 2012

فيلم «بابل» لإسماعيل وعلاء الدين سليم ويوسف الشابي: غوص سينمائي شـعـــري فــي تـراجـيديـا مخيمـــات الشوشــة

عالم تشّكل ثمّ اضمحل... نعم حدث هذا على الأرض التونسية وبالتحديد في منطقة الشوشة الحدودية أيّاما قليلة بعد اندلاع الثورة الليبية، فقد توافدت مئات الآلاف من اللاجئين من جنسيات مختلفة على الحدود التونسية الليبية طالبين «وقفة انسانية» بعد أن اشتدت المواجهات بين الثوار وكتائب القذافي..
 
فكيف عاش هؤلاء؟ وكيف قاوموا العوامل الطبيعية الصعبة؟ وكيف صبروا على إنسانيتهم المفقودة لولا بصيص الأمل الذي ظلّ قائما؟ حول هذه التراجيديا الإنسانية التي هجّر فيها الاف من البشر من بيوتهم وأراضيهم ومواطن عملهم، أنجز الثلاثي إسماعيل وعلاء الدين سليم ويوسف الشابي فيلما وثائقيا نقل بلغة سينمائية شعرية أكثر من معبّرة قصة «عالم» ولد في قلب الخلاء، أبطاله لاجئون وجنود ومتطوعون إلتقوا في محاولة لإرساء مقومات «شبه حياة» تحفظ  شيئا من كرامة عابرين غدر بهم الزمن.


وقد إختار المخرجون الثلاثة الذين حلّوا بمنطقة الشوشة خلال شهر مارس 2011 مواكبة اللحظات الأولى كما الأخيرة من اجتياز اللاجئين الحدود بما فيها من حيرة ومن توّجس من المجهول إلى غاية مغادرتهم الأراضي التونسية ومارافقها من انتظار ومن رغبة في تبديد هذا الكابوس الحقيقي... وبين هذا وذاك اقتفى الشريط أثر تفاصيل عديدة من حياة متساكني المخيمات ومنها المظاهرات التي خرج فيها أصيلو البنغلاديش احتجاجا على أوضاعهم الصعبة وكذلك العروض الفنية والرياضية التي انتظمت للترويح عن نفوس من اضطروا للفرار من ليبيا وأقاموا في ظروف صعبة في هذه الرقعة من الأرض.


ولعل اللافت للانتباه في فيلم «بابل» هو مقاربة المخرجين الذين حاولوا الإلمام بكافة أطوار هذه «المدينة» التي خرجت من لا شيء لتلبي حاجة ألوف مؤلفة من أناس فروا من الحرب
، فتتضامن معهم في محنتهم في انتظار الانفراج. كما سخروا كاميراهاتهم لكشف معاناة لاجئين وجدوا أنفسهم يقاومون ظروفا غير إنسانية رغم المجهودات الضخمة التي قامت بها الدولة التونسية ومنظمات المجتمع المدني وكرم عديد التونسيين الذين فاقت تبرعاتهم المنتظر، فكيف لإنسان أن يعيش في سجن كبير تنعدم فيه أبسط المرافق الأساسية وكيف له أن يحافظ على كرامته عندما يتربص به الجوع والبرد وقلة ذات اليد؟

مخرجو «بابل» لم ينسوا في فيلمهم الوثائقي رؤاهم وحسهم السينمائي الذي لازم تقريبا كل المشاهد، فهذا مشهد سريالي لمخيمات تتذبذب وكأنها سراب وهذا مشهد مميز لشمس تشع بين أجساد اللاجئين، وآخر سماوي ليلي يستحضر فسحة الافاق رغم ضنك العيش.. إسماعيل وعلاء الدين سليم ويوسف الشابي بحثوا أيضا في عشرات الوجوه عما يمكن أن تخفيه هذه الواجهات الجلدية من أحاسيس الغضب والأمل، وهو تمش أعطى للفيلم طابعا شعريا خاصا
، إذ نقلت بعض المشاهد غضب وثورة بعض اللاجئين، ونذكر هنا المقطع المؤثر الذي إنتفض فيه لاجئو البنغلاديش، هذا فضلا عن مشاهد الطبيعة الصامتة التي عبرت بقحطها وبردها عن عجز المناخ مؤازرة من هم في حاجة إلى ذلك..

كما طوى التاريخ صفحاته على مدينة بابل الأسطورية التي عرفت نهضة وازدهارا قبل أن يتخلى عنها سكانها، طوى التاريخ مجددا صفحة أخرى من كتابه على «بابل تونس
» أو مخيمات الشوشة لتظل محفورة في الذاكرة وفي بعض الأعمال الفنية كشاهدة على واحدة من تراجيديات القرن الحادي والعشرين.

يذكر أن فيلم "بابل" تحصل على الجائزة الكبرى لمهرجان مرسيليا السينمائي (جويلية 2012) وهومن انتاج شركة إكزيت ولم يحض بأي دعم  من قبل وزارة الثقافة. 

شيراز بن مراد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق