الأربعاء، 10 ديسمبر 2014

معرض «الغولة» للناصر خمير: «لو فجّرنا كنوز ثقافتنا، لما أمست ديارنا ديار حرب»

من منّا في طفولته، لم يستمع الى حكايات الغولة المخيفة التي كانت ترويها الجدّات والأمّهات لتحذير اطفالهنّ من هذا السلوك أو ذاك؟ لكن ما هو مصير «الغولة» اليوم وأين اختفى هذا الإرث اللغوي الذي عمّر خيال أجيال وأجيال من الأطفال التونسيين؟
حول «أسطورة الغولة»، قدّم الفنان الناصر خمير معرضا احتضنته قاعة الأخبار بالعاصمة طول مدّة أيام قرطاج السينمائيّة. ويطرح المعرض الذي ينقل تجربة الناصر خمير مع المخيال التونسي، العلاقة الموجودة لدينا بين الموروث الشفوي والصورة، بين العادات والحداثة.
ينفتح المعرض على لافتة تتضمن مقولة لحمادي الصيد جاء فيها ما يلي: «متى نفهم انّ الخلاص من كل أزماتنا يتوقّف على تجديد ثقافتنا» في اشارة لضرورة الوعي بثراء مخزوننا الحضاري وبأهمية مجادلته وتجديده لأنه يشكّل هويتنا وأحد أبرز مقوّمات ذواتنا.
ويشمل معرض الغولة مجموعة من الصور العملاقة التي تجسّد «الغولة» في تجلياتها المختلفة، فهذه «غولة» خطفت طفلا صغيرا، وهذه «غولة» التهمت عددا من الدجاج والخرفان، وهي لوحات شارك في رسمها بعض أفراد عائلة الناصر خمير سنة 1974 بمنزله الكائن بجهة قربة.
وسعى خمير من خلال هذه التجربة -مثلما ذكره رسام القرافيك محي الدين لبّاد- الى تفجير الكنوز المخبّأة فينا: كنوز الحضارة العربيّة الاسلاميّة المختزنة فضلا عن تفجير ملكة الخيال والابداع التي تتميّز بها هذه الحضارة، والتي طمسها مجتمع الاستهلاك وعاداته المكتسبة عن الثقافات المستوردة. 
ويرى خمير ان اللقاح الحقيقي لمجتمعاتنا يكمن في معرفة حقيقية للتراث لأنّه الأداة التي تُعين على بناء الذات والوصول الى مرتبة تجعلك تتفاعل مع الانسانيّة كاملة ولاتعيش كالقطيع.. فلو رُبّي اطفالنا بالحسّ والمذاق والفكر لما تردينا الى هذا الحضيض وما أمست ديارنا ديار حرب.
وتكشف الرّسوم والمخطوطات التي عرضها خمير كيف يمكن ان يكون الإرث والتقاليد منطلقا للابداع، وكيف يمكنها ان تقدّم لأبنائنا ثقافة مرتبطة بماضينا مما يجعلنا نتجنّب موتا انتروبولوجيا مؤكدا قد تنتج عنه هويات قاتلة او قد يدفع نحو اهمال هذا الارث. 
فعندما يكون هناك موت أنثروبولوجي، يقول خمير، ينقسم المجتمع إلى جزئين: أولئك الذين لا يكترثون للأمر معتبرين ان إندثار الموروث لن يغير في الأمر شيئا، وهذا يُعدّ في نظره إجراما، وفي المقابل هناك شق ثان يدعو الى العودة الى الجذور ولكنه يقتصر على الجانب الديني مع إلغاء تام للموروث الثقافي، وهو ما يزرع ثقافة الموت. وبين هذا وذاك، هناك عمل غيبناه ويتمثل في تجديد موروثنا الحضاري حتى بتنا نعيش بين فكي ثقافة الموت ومجتمع الاستهلاك. ويواصل خمير: «لنكن صريحين مع أنفسنا: ليس هناك حرية دون إبداع حقيقي».
والى جانب اللوحات، تضمّن المعرض عددا من الكتب التي نشرها الناصر خمير ومنها كتاب «حكاية الغولة» الذي صدر سنة 1975 عن دار ماسبيرو للنشر بفرنسا، ثم كتابه «شمس بين حيطين» الذي ضمّ مجموعة من الروايات التي روتها له والدته «أم الخير»، وكتاب «شهرزاد» و«حكمة الاسلام» وغيرها من الكتب الموجهة للأطفال.
ونعتقد انّه كان حرّيا بوزارة الثقافة ان تُبقي على هذا المعرض لفترة أطول من أسبوع، فمجهود ابداعي من هذا القبيل كان يمكن ان يدوم أكثر في «الحبيب بورقيبة» الشارع الرئيسي للعاصمة الذي غابت عنه الثقافة ونخرته المقاهي ومحلات الأكلة السّريعة.

شيراز بن مراد

في الدورة 25 لأيّام قرطاج السينمائيّة: تتويج السينمائي الناصر خمير بالتانيت الذهبي

توّج السينمائي الناصر خمير في الحفل الاختتامي للدورة 25 لأيام قرطاج السينمائيّة بالتانيت الذهبي تكريما لمسيرته السينمائية الغزيرة بالأعمال والتي تعدّ قرابة الـ15 فيلما منها «الهائمون في الصحراء» (1984) و«طوق الحمامة المفقود» (1991) و«بابا عزيز» (2005) و«شهرزاد أو الكلام ضدّ الموت» (2011) و«البحث عن الشيخ محيي الدين» (2012) و«من أين نبدأ؟» (2014).
واعتبر المستشار الفنّي للمهرجان اقبال زليلة ان في تكريم الناصر خمير مصالحة مع ذواتنا، حيث يمكننا اختزال سينما خمير في تلك اللقطة من فيلمه «بابا عزيز» حيث نرى الأمير باحثا عن صورة لروحه في انعكاسات الماء، وفي هذه الصورة دعوة لإعادة التفكير في تموقعنا في العالم وضرورة التصالح مع ذواتنا.
إذ يكمن موطن ضعف العالم العربي، وفق نظرة خمير، في انعدام تأصله في ميثولوجيا ينهل منها، ممّا يحدث شرخا بين الماضي والحاضر ويدفع بالمجتمعات العربية نحو نمط حياة يقوم علي الاستهلاك بعيدا عما يعج به مخزونها الحضاري.
وعادة ما تطرح أفلام الناصر خمير تيمات وقضايا ذات علاقة بالحضارة العربية، فيسائل المخرج معاني اللغة العربية وجماليتها في فيلم «رفقة اندري ميكال»، ويُبحر مع المعجم الحبي في «ياسمينة واسماء الحب الستون»، وهو فيلم يرسم انحدار الأوطان العربية في منعرجات الفراغ وتهميش الإرث العربي الإسلامي وذلك منذ سقوط قرطبة.
أما فيلم «بابا عزيز» فيصوّر حالة التيه والضياع الروحي التي أصابت العرب، بينما يقتفي خمير في فيلم «البحث عن الشيخ محيي الدين» أثر واحد من أهم أعلام التصوّف الإسلامي وهو الشيخ محيي الدين ابن العربي (1164 ـ 1240) الذي ارتقى بحبّ الآخرين الى منزلة الدين.
ويقول خمير: «منذ أوّل فيلم لي وإلى غاية اليوم، اخترت العمل على الثوابت التي تقوم عليها سماؤنا حضاريا، كلّ أعمالي تبحث عن كلاسيكية فنية وجمالية لأنّني أعتقد أن بناء ما يشابهنا يستدعي منا الرجوع الى الثوابت. همي يتركز على بناء هذه الثوابت بالصورة، فهذا غير موجود. الصورة هي تكوين حضور آني يمسّ كل إنسان في أيّ مكان، هذه هي الحداثة، أي أن تعطي الآخر المختلف ادوات تواصل من منطلق المشترك الإنساني وأن تكتبه بلغتك وأدواتك ومراجعك».
وروى خمير خلال تكريمه في المسرح البلدي قصة الفداوي الذي كان يجلس في مدخل المدينة العتيقة ليحكي قصصا من الماضي التليد، وبعد مرور سنين، سأله خمير لماذا تواصل قصّ نفس الروايات، فأجابه الفداوي:«أواصل القصّ حتى لا يُغيرني العالم». وهي حكاية تكشف مغزى التمشي الفني للناصر خمير سواء كان ذلك في السينما او في الرسم أو في النحت أو في الكتابة.
شيراز بن مراد
تصوير: أيمن الزناقي

في "مرّ وصبر": السهيلي يصوّر الشبق والإحباط والوجيعة في بدائيتها الأولى

بعيدا عن النهايات الهوليودية وعن الانتصارات السينمائية السخيفة، رسم المخرج نصر الدين السهيلي في فيلمه الجديد «مرّ وصبر» والذي عرض في إطار الدورة 25 لأيام قرطاج السينمائية، مشهدا سينمائيا موسوما بندوب الحياة وبجراحها الصغيرة كما الكبيرة.
ففي "وكالة" بأحد الأحياء الشعبية، تعيش صالحة النصراوي وابنها المعاق وطليقها منير الذي طرد من الجيش (عاطف بن حسين) والكفيف توفيق الغربي والمجنونة نجوى ميلاد والصبّاغ محمد علي دمّق. في هذا الفضاء الضيق، تزدحم الحياة بأوجاعها اليومية قبل أن تحلّ ساكنة جديدة، وهي طالبة لم تتمكن من التحصل على مبيت جامعي (مريم الصياح)، تأتي لتعزّز آلام هذا الفضاء بآلام جديدة وفقا لأقدار لا يعلم بخفاياها إلّا الغيب.
 ومن خلال هذه العيّنة من الشخصيات، يحاول نصر الدين السهيلي رصد ملامح "فوضى انسانية" يُستعصى فهم أسرارها، فهذه صالحة النصراوي تضطر للرقص في ملهى ليلي لتُعيل ابنها الصغير، وهذا عاطف بن حسين يبيع جسده لصديقه بلبل (إبراهيم زروق) لتوفير شئ من المال، وهذه براءة الطالبة مريم الصيّاح تتدعثر في عالم غريب الأطوار.
 ويدفع المخرج بالمتفرجين الى قلب العبثية، عندما يصوّر قصة الحب المستحيلة التي جمعت منير (عاطف بن حسين) بـ (مريم الصيّاح)، فكيف لقصة حبهما أن تنجح وهما محاصران ماديا ومحاطان ببحر من المشاكل والعوائق؟ وكيف لهما أن يحبّا بعضهما في هذا الزمن الوغد؟
بحسه الثائر الذي يرفض المهادنة، تمرد السهيلي على "المتفق عليه" فإقتلع القشور ليظهر النسغ الحي وما يعتمل في الدواخل من أحاسيس ضارية بالرغبة وبالعجز وبالألم، فصوّر الشبق والإحباط والوجيعة في بدائيتها الأولى، تلك التي لا تترك مجالا للنفاق او للخداع.
ويطرح السهيلي هكذا عدة قضايا اجتماعية ومنها قضية التهميش الذي يحكم على الفرد في مجتمعنا بأن يبقى أسير وضعيته الاجتماعية البائسة دون أيّة امكانية للتحسين، وقضية حرية الجسد والمواضعات الاجتماعية فضلا عن تيمة الحب، هذا الشعور المفعم الذي تصيبه ظروف الحياة القاسية بسهام المرارة.
 ويوجّه السهيلي عبر فيلمه رسائل عديدة الى من اختاروا تجاهل مشاكل البلاد وطمس أنّات العباد. فكيف للانسان أن يعيش بكرامة إن لم يتمكن من إيجاد مورد للرزق، وكيف له أن يكون مرتاح البال إذا كانت حرّيته الجسدية محدودة، وكيف له أن «ينجح» إذا لم تتوفر السّبل لذلك؟
ويمكن القول إن خيار «الوكالة» كفضاء للتصوير لم يكن اعتباطيا بما أنّه يرمز لهذا الفضاء المصغر الذي يجمع عيّنة من الحالات الاجتماعية التي تعاني في صمت بعد أن لفظها المجتمع، وقد بات الماخور والملهى الليلي يمثلان مُتنفسيها الأساسيين ومصدرا لرزقها.
 ولئن اتسمت شخصيات السهيلي بغياب الشاعرية بحكم ظروفها الاجتماعية القاهرة، فإن الفيلم طُبع في مجمله بشاعرية رقيقة بفضل طريقة تصويره وموسيقاه (أدار التصوير على بن عبد الله وأعدّ الموسيقى ربيع الزموري) حيث يلج المتفرج إلى عوالم السهيلي الخلفية من خلال الاضواء والالوان والالحان التي رافقت كل مشاهد الشريط وأعطته طابعه الخاص.
 كما لا يمكن ان نغفل على الأداء المميز للممثلين والذي أعطى للفيلم كل قوته، ونذكر بالخصوص أداء عاطف بن حسين الذي كان فجّا، محبّا، سكيرا، عنيفا، ضعيفا، ومزج بين طباع الرجل صعب المراس والرجل حبيس وضعيته، فضلا عن أداء صالحة النصراوي التي جمعت بين الرجولة والانوثة وقد ذابت فيها هذه الصفات لتُشكل هي الاخرى حالة اجتماعية صعبة المجاراة لما فيها من قوة ورقّة في نفس الوقت.
ونحن نغادر قاعة العرض، همست احدى الشابات لمرافقها قائلة إن مخرج الفيلم لا يمكن إلّا أن يكون «مجنونا» ليتطرق لمثل هذا الفوضى البشرية، وهي فوضى صوّرها نصر الدين السهيلي بالقدر المستحب من الجنون، جنون عالم فاقد للصواب، مضطرب، داكن الصباحات والامسيات، استبيحت حقوق ناسه حتى أضحت أبسط الامنيات مستحيلة التحقيق، كأن تحبّ، كأن تجد شغلا، كأن تداوي ابنك المريض، كأن تصعد الى أعلى الصومعة وتقول «أنا إنسان، أنا حرّ».
رقصة أقدار موجعة هي التي صوّرها نصر الدين السهيلي في «مرّ وصبر»، موجعة بما يُعانيه أبطاله من ضياع ومن إحساس بالعجز على الخروج من المتاهة التي وضعتهم فيها الحياة. رقصة ضارية عنيفة لم يسع فيها السهيلي الى تنميق الكيانات وتجميلها بقدر سعيه الى نقل صورة فجّة ومعبّرة لمعاناة من يجدون أنفسهم حبيسي حلبة إجتماعية ضيقة قوامها التهميش والحرمان.

شيراز بن مراد

السينمائي سهيل بيوض يسلط الأضواء على معاناة "أولاد دج دج"

«رانا توانسة، لكن ما جانا حدّ»... من الجمل المعبّرة التي جاءت في فيلم «دج دج ولد الشعب» للمخرج سهيل بيوض والذّي سلّط فيه الضوء على أحد الأحياء المهمشة بجهة جبل الجلود... تمرّ الأيّام وتأتي الانتخابات وتتغير الحكومات والرؤساء والوضع هو نفسه في «دج دج» هذا الحي المنسي الذي لا يبعد سوى 3 كيلومترات عن العاصمة تونس.
تتوالى الشهادات في هذا الفيلم الوثائقي القصير الذي انتجته جمعية «فورزا تونس» لتؤكد حالة التهميش التي يعاني منها الكبار كما الصغار... يتكلم أحدهم فيقول: «نحن منفيون! شعملنالكم؟» ثمّ يأخذ الكلمة شاب آخر فيقول: «رانا ولاد تونس، ماناش ولاد ليبيا ولا الجزائر»..
ويشتكي حي «دج دج» من غياب المرافق التي يمكن أن تضمن العيش الكريم فضلا عن نسبة البطالة المرتفعة وصعوبة أوضاع التلاميذ الذين يفتقرون الى ميدعات جديدة والبسة مختلفة ممّا يجعلهم يبقون على الهامش..
وتكلم مواطن آخر فقال: «أريد أن اقول للرئيس القادم: فيق بالزوالي الذي أصبح غير قادر على إطعام عائلته».
وتتجول كاميرا سهيل بيوض بين أنهج «دج دج»، فلا طريق معبد، ولا نادي ثقافي للأطفال ولا فضاءات خضراء وهكذا تظلّ أحياء عديدة محيطة بالعاصمة تعاني من الإقصاء الاجتماعي ومن التهميش الاقتصادي من غير أن يلتفت إليها أي مسؤول، فهل تتغير الأوضاع مع الحكومات القادمة أم ستظل تونس تهمش فئات من أبنائها؟
كلّنا أمل في أن يتفاعل المسؤولون مع أوضاع «دج دج» وأن تعي الحكومة القادمة بضرورة الاهتمام بقفة المواطن فضلا عن دعم الاستثمار وتوفير مواطن شغل مع إيلاء الجانب الثقافي الأهمية التي يستحقها..
فكيف للتونسيين أن يعيشوا بكرامة إذا لم يتوفر الشغل والمرافق الصحية والرياضية الى جانب المحيط الثقافي الذي يدفع نحو التسامح والانفتاح على الآخر وحب الحياة؟

شيراز بن مراد

الاثنين، 17 نوفمبر 2014

الروائي كمال الرياحي في ورشة أدبيات الحوار الثقافي: الحوار قطعة أدبية مكتملة الذات

"الحوار مثل مزهرية الجدّة تساوي ثروة لكن لا احد يعرف أين يضعها" هكذا وصف الكاتب قابريال قارسيا ماركيز الحوار الصحفي الذي شكّل محور ورشة نظمها الروائي كمال الرياحي في دار الثقافة ابن خلدون يوم الجمعة 07 نوفمبر 2014 واستضاف فيها الروائي الليبي محمد الأصفر والشاعر التونسي جمال الجلاصي.

وللولوج في عالم "الحوار الثقافي"، إنطلق الكاتب كمال الرياحي من تجربته الشخصية قائلا انه دخل الصحافة بحكم هويته ككاتب ولافتا النظر الى الفقر الملحوظ في الصحافة الثقافية على المستوى العربي ماعدا لبنان وعدد من العناوين الكبيرة. واضاف كمال الرياحي انه ليس هناك ثورة كاملة دون ثورة ثقافية، مشيرا الى أنّ تثوير المشهد الثقافي يجب أن يتم من الداخل وبمواجهة المشهد بمشاكله.
الحوار.. عصب أساسي في المادة الثقافية
وقال الرياحي إنّه أجرى حوارا مع الكاتب محمود طرشونة بعدما لاحظ غياب نص "الكفارة والرحمة" للمسعدي من كتاب "أيام عمران" الذي اهتم فيه طرشونة بجمع أعمال المسعدي، ومن خلال هذا المثال  أبرز الرياحي أهميّة الحوار للأدب وللتاريخ. كما تحدث المحاضر عن تجربته مع عدد من المجلات العربية مثل مجلة عمان الثقافية التي تصدر من الأردن والتي نشرت له مجموعة هامة من "الحوارات النهرية" تقفية على الروايات النهرية.
وقال الرياحي إن الحوار يمثل عصبا أساسيا في المادة الثقافية مستشهدا بجيرار جينيت صاحب كتاب "العتبات" والذي يتنزل فيه الحوار ضمن أهم عتبات الأدب. وفي هذا السياق، يقول جينيت إن قراءة حوارات الكاتب تمثل عتبة هامة لفهم تجربة الكاتب الأدبية ولعل مقولة ماركيز حول الحوار تعطي فكرة حول أهمية الحوار وخطورته.
حسنين الهيكل.. أشهر محاور في العالم العربي 
وشدد كمال الرياحي على أهمية المحاور معتبرا أن المنبر المحترم يقوم أساسا على "المحاور" وهو هوية حقيقية مثله مثل المفكر والمخرج والروائي. واستشهد كمال الرياحي بالمحاور الأشهر في العالم العربي وهو الصحفي المصري حسنين الهيكل، وقد جاءت شهرته من لقاءاته الصحفية بشارلي شابلن ووينسون شرشل وغيرهما.. ولذا أكد المحاضر على أهمية تكوين الصحفي المحاور الذي يجب أن تتوفر فيه مهارات معينة مناديا بتكذيب ماركيز الذي كان يرفض -كأديب كبير- إجراء مقابلات صحفية متعللا بضعف مستوى محاوريه.
ولتبسيط  الصورة، ذكّر الرياحي بمختلف الأجناس الصحفية على غرار التقرير والتحقيق والحوار، مشيرا إلى التفاعل الذي يمكن أن يحصل بين هذه الأجناس. وبخصوص الحوار، قال الرياحي انه عصب أساسي في المادة الإعلامية، وهو فن يقوم على الحوار بين الصحفي وشخصية عامة. ومن أهداف الحوار الحصول على أخبار أو معلومات جديدة، كما يمكن أن يرمي الحوار إلى شرح وجهة نظر أو تصوير جوانب غريبة أو مسلية عن شخصية ما.
مؤلفات إهتمت بالحوار
وفي هذا الصدد، قدّم الرياحي نماذج لمؤلفات اهتمت بالحوار على غرار "الحوار" لمحمد شكري والذي أجراه معه يحي بن الوليد وزبير بن بشتة ونشر نصه الكامل على 10 حلقات في جريدة القدس العربي، أو "مكان تغمره الخصوصية" أو " اعترافات في الثمانين" لهنري ميلر أو السلسلة التي حاور فيها الرياحي عددا من الأدباء والمفكرين على غرار "هكذا تحدث واسيني الأعرج" و"هكذا تحدث نصر حامد أبو زيد" والذي سيصدر قريبا عن دار كارم الشريف للنشر، فضلا عن "هكذا تحدث فيليب لوجون".
وقال الرياحي إنّ الحوارات يمكن أن تحدث دفعة واحدة وأيضا على مراحل حيث يمكن للصحفي أن يجري حوارا «بالحزم» أي بحزم من الأسئلة يبعثها الي ضيفه على مراحل..
 لماذا تُجهض المشاريع الجيدة في تونس؟
وفي ما يخص الساحة التونسية، لاحظ الرياحي أنّه من الأسف أنّ المشاريع الجيدة تجهض في مهدها، وضرب مثال سلسلة «أبعاد» قائلا إنّها من أروع المشاريع في مجال الحوارات الأدبيّة، وكانت هذه السلسلة صدرت عن دار البستان وأشرف عليها أحمد الرمادي، ومن الحوارات التي تمّ نشرها قبل توقف السلسلة حوار مع الأب جون فونتان مدير إيبلا والرسام حاتم المكي..
مع الضيف الليبي محمد الأصفر: بين الفرحة والخوف
ثمّ تواصل اللقاء بمحاورة الروائي الليبي محمد الأصفر، واستعرض الرياحي عددا من مؤلفات الضيف على غرار «عسل الناس» و«شرمولة» و«تقودني نجمة» و«سرة الكون» و«ثوار ليبيا الصبورون»، قبل أن يطرح عليه عددا من الأسئلة تطرقت لرواية «فرحة» التي صدرت مؤخرا ترجمتها باللغة الإسبانية، وذكر الأصفر أنّ مؤلفه تطرق الى الفرحة أو بالأحرى الى شخص مات من الفرحة، ولذلك فإنه إستيقظ، لكن السلطة لا تريد لها فتخصص له مخبرا وتقرر ملاحقته بغية القبض على الفرحة وتجزئتها وتوزيعها على عدّة بلدان للتحكم في مزاج الناس...
ومن «فرحة»، إنتقل المحاور الى كتاب «ثوار ليبيا الصبورون»، وبيّن الأصفر أنّه رصد في مؤلفه هذا، الأشهر الثلاثة الأولى للثورة الليبية عندما كانت الأحاسيس جياشة وكان الشعب الليبي كتلة واحدة لا غرب ولا شرق قبل أن تنطفئ الشعلة وتضيع الثورة. وقال الأصفر إنّ كتابه تسجيل لموقفه من الثورة. بينما تطرق الرياحي الى تيمة «فقدان الخوف»، فكيف سيعيش المواطنون دون خوف بعد رحيل نظام القذافي؟ وتساءل االرياحي هل ما نراه الآن في ليبيا هو نتيجة للبحث عن الخوف، بمعنى أنه لابد من إعادة النظام الديكتاتوري؟
حول الحوار، مراحله وأسئلته ومهارات المحاور
بعد ذلك، وضّح كمال الرياحي مراحل إنجاز الحوار كقطعة أدبيّة وهي 3 مراحل:
ـ قبل الحوار: الاستعداد
ـ اثناء الحوار: إدارة الحوار
ـ بعد الحوار: تجهيزه للنشر
وفي هذا السياق بيّن الرياحي أنّ الصحفي المحاور عليه أن ينكب خلال فترة الاستعداد على عدّة مصادر والتشبع بها على غرار المنتج والحوارات السابقة والتصريحات والسيرة الشخصية.. ولفت الروائي النظر الى المساحة التي ستخصص للحوار في الصحافة المكتوبة لأنّ ذلك يؤثر على دقة الاسئلة وجودتها مؤكدا في نفس الوقت على أنّ الحوارات القصيرة يمكن أن تكون ممتازة.
ومن الجوانب الأخرى التي تطرق إليها الروائي كمال الرياحي، هيئة المحاور كهندامه وثقته في النفس، ونوّه الرياحي بأهميّة الإغراء المعرفي وكاريزما المحاور فضلا عن الحرفية وعدم التسرع والتيقظ الذي يفتح الباب للأسئلة التفاعلية، وهنا لفت الرياحي نظر الحضور الى نقطة هامة ذات علاقة بفضاء الحوار، فإذا انعقد الحوار في مكتب أو بيت الضيف، فيجب إيلاء أهمية إلى تفاصيل محيطه القريب والتي يمكن ان تستعمل في مقدمة الحوار على سبيل المثال.
وعرّج الرياحي على الاسئلة التي يجب تلافيها من قبيل «صف شعورك» معتبرا أنّ الاسئلة يجب أن تتجاوز السطحية وتكون مبيّنة على الإطلاع، مضيفا أنّ هناك نوعية أخرى من الاسئلة وهي الأسئلة الاستفزازية التي تتطلب الحرفية والذكاء، وكذلك الأسئلة المحرجة التي يجب السهر على حسن توقيتها. كما فصل المحاضر بين الاسئلة الذكيّة والغبيّة خالصا الى أن المحاور السيء هو الذي يريد أن يُجهض على ضيفه فيكون سطحيا، مترددا مستفزا بطريقة وضيعة، أمّا المحاور الجيّد فهو الذي يريد أن يبقي ضيفه على قيد الحياة وهو الذي يستفز بلباقة.
مع "الشاعر المؤقت" جمال الجلاصي
وانتهت ورشة أدبيات الحوار الصحفي في حلقتها الأولى بحوار جمع الصحفية ابتسام القشوري بالشاعر جمال الجلاصي صاحب «الأوراق المالحة» و«أعشاب اللغة» و«مقامات الرحيل»  فضلا عن 3 كتب مترجمة الى اللغة العربية وهي «اضراب الشحاذين» لأميناتا ساو فال و«السيد الرئيس» لأستورياس و«الزنوجة» للشاعر السينغالي ليوبول سنغور. وسعت الصحفية الى التعريف بجمال الجلاصي الشاعر من خلال ديوانه «أعشاب اللغة».
وانطلق الحوار بعتبات المجموعة الشعرية حيث سألته المحاورة عن العنوان وصورة الغلاف وعن الإهداء كمدخل للحوار قبل المرور الى تيمات الديوان ومنها المرأة والحرية والموت والوطن. وقد وصف الجلاصي نفسه بـ"الشاعر المؤقت" معتبرا أنّه سارد بالأساس. وأضاف الضيف أنّه يكتب الشعر لأنّه يتوهم صادقا أنّ لهذا الجنس الأدبي قدرة على تغيير العالم لكي يكون أكثر إنسانية.
إثر ذلك فُتح باب النقاش، فأبدى الحاضرون ملاحظاتهم فضلا عن اسئلتهم التي عبرت عن اهتمامهم بالحوار لا كجنس صحفي فقط بل كقطعة أدبيّة مكتملة الشأن لها فنونها وتقنياتها وميزاتها. ويذكر أنّ الحلقة القادمة ستخصص الى الحوار الثقافي في التلفزيون وذلك يوم الجمعة 21 نوفمبر بدار الثقافة إبن خلدون إنطلاقا من الساعة الثالثة.

شيراز بن مراد

عدنان الهلالي: لن نترك تونس بين أيدي الجهلوت

«نحن بحاجة إلى آلات موسيقية وليس فقط لطائرات F16 لمواجهة الذئاب والأغبياء» تعبيرة مجازية ختم بها الفنان عدنان الهلالي عرض مسرحية «زنقرا» على ركح مدار قرطاج يوم الاحد 9 نوفمبر ليؤكد على أهمية الفعل الثقافي في مواجهة التطرف والظلامية.. 
فمن خلال مجموعة من أشعار الفنان البلجيكي جاك برال، خاط عدنان الهلالي نصّا مسرحيّا دار حول شخصية «زنقرا» ذاك الضابط المخبول الذي يثور على الحرب ويشجبها بعد أن حوّل ثكنته الى فضاء مسرحي.. فتراه يرقص ويغني ويلقي الشعر ويجسد حالات تراجيدية وأخرى كوميدية ليعبر عن رفضه لعقلية القطيع ولينادي بالحريّة والانعتاق من قيود عالم جشع بشع لا يطاق..
وقد أفادنا عدنان الهلالي أن مداخيل عرضه المسرحي التي تمثلت بالأساس في هدايا (كتب ومواد رسم وألات موسيقة) سيتمّ نقلها يوم 16 نوفمبر الى مدرسة الحازة الحدودية بحضور عدد من الفنانين والصحفيين وذلك في إطار تظاهرة ترمي الى فكّ العزلة الثقافية عن المناطق النائية والى نشر الفنون والثقافة في المناطق الريفية والجبلية التي تشكو من نقص فادح أو لنقل من انعدام تام للفعل الثقافي..
وفي هذا الصدد لاحظ الهلالي أنه سيسعى إلى تعميم تجربة الحازة 24 ( وهو عدد تلاميذ مدرسة الحازة) على الولايات الـ  24 للجمهورية قائلا إنّّ«في كل ولاية حازّة» في إشارة للتهميش الثقافي الذي تعاني منه أنحاء عديدة من ولايات البلاد..
وبخصوص الأطراف الداعمة لهذه التظاهرة، ذكر الهلالي كلّا من عبد القادر الميساوي الذي وفّر فضاء للمركز الثقافي الجبلي بسمامة وآمن بفكرة بعث نواد ثقافيّة في مدارس المناطق النائية ودعمها، وكذلك الدكتور محمد صالح العمري وهو أصيل الحازة وأستاذ في الأدب المقارن بجامعة أكسفورد، وكان العمري تبرع بمبلغ ألف دينار لمدرسة الحازة حتى يتمكن التلاميذ من المشاركة في مسيرة الزهور التي انتظمت منذ أشهر بالعاصمة.. هذا فضلا عن مدرسة الأمل بحي الرياض بسوسة التي تدعم المبادرة وعدد آخر من الفنانين على غرار السينمائي كريم بلحاج ومريم الرفاعي وآمال شلوف ومالك عمري والشاعر عمار عواينية وغيرهم..
وقال محدّثنا «كفانا خطبا ولنذهب إلى الميدان» في إشارة إلى ضرورة القطع مع اللغة الخشبية التي لا تعمل على نشر الثقافة بصفة عملية، بل على تكريس العروض التجارية والثقافة الموسمية لاغير، وضرب الهلالي مثال الفنان وائل جسار الذي قدم عرضا في القصرين أمام العشرات من الحاضرين مقابل مبلغ خيالي يناهز الـ 80 ألف دينار معلّقا بأنّه كان بالامكان أن ننجز ثورة بهذه الأموال وأن نجعل من الجبل منحلة ثقافية.. وختم الفنان عدنان الهلالي حديثه معنا مستعملا عبارة «برال في الجبال» (ويقصد جاك برال) ليؤكد على أهمية غزو المناطق النائية بالفن والثقافة حتى لا تبقى فريسة بين أيدي الجهلوت والظلاميين.
شيراز بن مراد
تصوير : دليلة يعقوبي

الجمعة، 31 أكتوبر 2014

مسرحية «الماكينة» لوليد الدغسني: عندما يفقد العالم العربي عقله...

من على متن سفينة تعطّب مُحرّكها في عرض البحر تنطلق الحكاية، حكاية حاكم معزول عن شعبه، حاكم عاوده الاستبداد بعد الثورة، حاكم لم يُدرك معنى حرية التعبير، ولم يسع الى الاقتراب من أحلام الشباب فكان أن دفعهم مجدّدا إلى معانقة حبال النهاية.
في «الماكينة» العمل المسرحي الجديد للمخرج وليد دغسني، والذي عُرض الأسبوع الفارط بفضاء التياترو، يروي الدراماتورجي والمخرج قصّة سيزيفيّة، تلك التي يُجبر فيها الشعب على رفع الصخرة الى أعلى الجبل بعد أن تسقط في الوادي كلّ مرّة لأنّ الحاكم لم يفهم، لأن الحاكم لم يفقه في إشارة للمصير التراجيدي للعالم العربي.
يرتدي أبطال الدغسني (منير لعماري في دور القبطان-الديكتاتور وأماني بلعج في دور الصحفية وكريم الغربي في دور المستشار) لبوس شخصيات كان من المفروض ان تنقرض من المشهد، ان يلفظها المجتمع لكنها تأبى إلاّ أن تخرج مجدّدا من قمقمها لتكرّس التجبّر والتسلّط والتهميش.
على وقع موسيقى كلاسيكية ضارية، يرفع وليد الدغسني في مسرحية «الماكينة» مراياه في وجه المستبدين الجدد عساها تعكس لهم حجم التشوّهات التي يحملونها وحجم الدمار واليأس الذي خلّفوه في نفوس المواطنين، مواطنين طيّبين، اذكياء، محبّين للحياة ومقبلين عليها بنهم، غير انّ المستبد يسبح في مياه أخرى بعيدا عن يابسة شواغلهم.
في هذا العالم السياسي المنغلق والذي تحرّكه حبال الدسائس وخيوط الجشع يُقحمنا وليد الدغسني، فنسير في دهاليز السلطة المستبدّة وأقبيتها المظلمة بكلّ ما تتضمنه من انفراد بالرأي ولغة خشبيّة وعنف. ويتطرّق الدغسني في جانب كبير من مسرحيته الى موضوع حرية الصحافة وكيفية تدجينها من قبل السلطة. فإذا أُحْكِمت القبضة على الإعلام حلّ الظلام وانعدمت جدوى هذه السلطة المضادة. ويمكن القول إنّ ثنائيّة السلطة والإعلام ممثّلة في الممثّلين منير لعماري وأماني بلعج شكلت مربط الفرس الذي يجب أن يظلّ تحت المجهر حتى لا تنحرف السياسة عن مسارات الديمقراطية.
غير انّ المسارات انحرفت في مسرحية الدغسني بشدّة، انحرفت الى درجة انّ المواطنين تحوّلوا جينيّا ليصبحوا شبيهين بكائنات سريالية (مشهد الضفادع الثلاث المميّز). إذ يدفعك الواقع المشؤوم في العالم العربي الى فقدان انسانيّتك، إلى التخلّي عن جزء من بشريتك لتتخذ شكلا جديدا في خطوة لحماية النفس من الجنون ربّما.
بين «القمرة السلطانة في قلب السماء» وبين «الفراغ الذي لا شيء ينمو فيه سوى الجحيم» مثلما جاء على لسان الممثل مكرم سنهوري، يتدحرج الانسان العربي: بين الحلم بالجمال ونيران الواقع، بين طيبة القلوب وسوء النوايا، بين الأشرعة البيضاء والرايات السوداء. على هذه الأرض العربية المُتقلبة، تصعب الحياة بكرامة ويصعب معها التمتّع بالحقوق وبأبسط الحرّيات، بعد أن تُزرع بذور اليأس وينثر الحاكم حبيبات الظلم لتنمو وتتشابك راسمة قضبان السجون الجديدة. وقد جسّد الدغسني هذ المعاني من خلال لوحة الانتحار المؤثرة التي يضرب فيها الممثّلون حبالا حول أعناقهم، مشهد ضارٍ يرسم نهاية الانسان الذي يفقد كل امكانيّة للحلم والأمل.
بعد مسرحيتي «انفلات» و«التفاف»، يضرب الدغسني موعدا جديدا مع جمهوره ليقول انّه لمّا تُسرق«الماكينة» أو بالأحرى «العقل»، يفقد العالم العربي بوصلته ويفقد انسانيّته، فدون عقل ودون فكر ودون علم ودون فن، يلامس العرب القاع: ديكتاتورية عمياء من قبل السلطة ويأس واحباط من جهة الشعب، وهو خسران مضاعف. فلماذا نتمادى فيه؟ وهي الرسالة الأولى التي بدا لنا أنّ الدغسني ضمّنها في عمله.
- مسرحية "الماكينة" من انتاج شركة كلندستينو بدعم من وزارة الثقافة
ـ دراماتورجيا واخراج: وليد دغسني.
ـ اداء: اماني باللعج ـ اروى بن اسماعيل ـ منير العماري ـ مكرم سنهوري ـ كريم الغربي
شيراز بن مراد
تصوير كريم عامري

معرض "مزهريات الرّوح" لعبد الحميد عمار بدار الثقافة ابن خلدون: فنطازيا الحدائق الغنّاء

ينفخ الرسام عبد الحميد عمار في ألوانه روحا خاصّة، فيرسم من خلالها سنفونية تبشّر بالفرح القادم وتخفق بنبض السّعادة التي تتحدى أكبر الأحزان. يستوقفك المعرض الذي ينظّمه الفنان عبد الحميد عمار بدار الثقافة ابن خلدون بالعاصمة بفنطازيا الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر والبرتقالي، فنطازيا لونية سعيدة تعانق أقاصي الفرح والحبور، فتودّ لو تجلس حذو احدى مزهرياته ـالمعرض يحمل عنوان "مزهريات الروح"ـ  لتنعم برؤية الحدائق الغنّاء بظلالها الوارفة وبسحرها الخلاب بعيدا عن «أسلاك المدينة الشائكة التي تصنعها أياد بشرية خارج دائرة العقلانية والضمائرية» كما جاء في النص التقديمي للمعرض.
ولعلّ الطريف في معرض الفنان عبد الحميد عمّار وهو أصيل مدينة طبلبة الساحلية، ذاك الشكل الذي أعطاه لمزهرياته إذ جاءت كلّها في صورة جنين يتولّد منه الأمل والعلم والفرح، ما عدا مزهرية وحيدة أخذت صورة جمجمتين وكأنّ بالموت يمكن ان يطوي الصفحة هو أيضا ليزهر بهجة وألوانا.
بعيدا عن سكاكين الغدر ونيران القهر، يرسم عبد الحميد عمار عالما مزدهرا على طرف نقيض من العالم الذي نعيش فيه، يرسم السعادة وهشاشة أحاسيس الفرح الأول، يصوّر بألوانه حبورا وراحة المروج المترامية.
يرسم في لوحاته مرادفات الزمن الجميل، ذاك الذي ينتفي منه الحقد، ذاك الذي لا يعترف الاّ برقة البتلات وبرهافتها، ذاك الذي لا يشعر الا برهافة أحاسيس أجمل ما يمكن ان تهديه الطبيعة من ورد ونرجس وشقائق نعمان وأزهار الأوركيد والمانيوليا.
يقول عبد الحميد عمار، من خلال مزهرياته الوارفة أو بالأحرى من خلال أجنّته الولاّدة أنّ الحياة لا يمكن ان تكون الا هكذا، بهجة وبهاء وانشراحا ونشوة بهذا العطاء الإلاهي اللامحدود.
قد تأخذ أزهار عبد الحميد عمّار في بعض اللوحات أشكالا هندسية متنوّعة ولكنها تظلّ توحي في كل الحالات بإنفجار زهري قوي ومنعش، انفجار يسحب البساط من تحت أقدام انفجارات الكراهية والإقصاء، انفجار لذيذ بنكهة سعادة صادقة، تلك التي تطلّ من حين إلى آخر على حياتنا ولو كانت في شكل معرض فنّي.

شيراز بن مراد
- يتواصل معرض «مزهريات الرّوح» للرسّام عبد الحميد عمار بدار الثقافة ابن خلدون الى غاية يوم 7 نوفمبر 2014.

في مسرح الحمراء: فتوحات ثقافية في قلب العاصمة

إحتضن مسرح الحمراء يوم الجمعة 24 أكتوبر حفل إختتام فعاليات الدورة 61 للمركز العربي الإفريقي للتكوين والبحوث المسرحية. وكانت فرصة ليؤكد فيها الثنائي عزالدين قانون وليلى طوبال سيرهما على درب "الإبداع" بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من توق للتحرر ومن مقاومة ومن طرح لقضايا حارقة كجنون السلطة والحرية وآلام الحروب وغيرها من الاوجاع الإنسانية. وهي التيمات التي طُرحت في الأعمال الثلاثة التي قٌدمت من قبل طلبة المركز الذي تدعمه ماديا مؤسسة "يون".
وتجدر الإشارة الى أنّ الأعمال المسرحية المُصغرة التي قُدمت في الحفل الإختتامي أبرزت الدور الذي يمكن أن يلعبه المسرح في تحسيس الأفراد بمعاناة الآخرين وفي دفعهم لكي يكونوا عنصر مقاومة في وجه الإضطهاد والتطرف، فضلا عن الجانب الجمالي الذي لمسناه في العروض الثلاثة.  
هذا وشهد الحفل الإختتامي تسليم شهائد للطلبة المتخرجين من الورشات الثلاث التي تم تنظيمها: ورشة الإخراج والتمثيل تحت إشراف المسرحي عز الدين قانون (الدفعة السادسة) وورشة الكتابة تحت إدارة الفنانة ليلى طوبال (الدفعة الخامسة) وورشة الملابس تحت إدارة بسمة الزوالي (الدفعة الثالثة).
وغادر الحاضرون قاعة العروض على وقع الكلمة التي ألقاها المسرحي عز الدين قانون والتي تولى خلالها الترحم على أرواح 3 مسرحيين غادرونا سنة 2014 وهم بشرى لدغم وعبد المجيد بلكحل والسينغالي عمر نداوو.
والى جانب ذلك، بادر أصحاب مسرح الحمراء بتنظيم تظاهرة فنية ''فن في الخربة" (Kherb’Art') بالساحة العمومية مدق الحلفاء-الخربة الكائنة بنهج الجزيرة قبالة المسرح. وهي تظاهرة يمكن أن تُحسب على "الفتوحات الثقافية" بما أنّ الفن يغزو من خلالها فضاءات المدينة المهترأة والتي طغى عليها الطابع التجاري بعيدا عن البعد الإبداعي الذي من المفروض أن ينبض به قلب العاصمة. وصرّح لنا عز الدين قانون أنه تم تجهيز الساحة بمعلقة فنية عملاقة من شأنها أن "ترتقي" بالمكان وتجعل منه إستراحة فنية وقبلة لجماهير مختلفة معبرا في الآن نفسه عن أسفه من البطء الذي تتفاعل به بلدية تونس مع الفعل الثقافي عوض إقتناص الفرصة والعمل على ترميم المكان حتى يكون فضاء ثقافيا يجد فيه المارّة متنفسا فكريا في شارع حيوي في تونس.
ومن جهة أخرى، أسرّ لنا جوهر السوداني الشاب الذي صممّ اللوحة الفنية التي "غُرست" في الخربة أنه إنطلق من تونس وبما تعج به من معمار وأحاسيس ليقدم عملا يتسنى للعابرين من عمال وموظفين وعائلات وعاطلين التمتع بمعانيه ودلالاته مجانا ودون قيد الفضاء المغلق.
حصل كل ذلك على بعد عشرات الامتار عن شارع الحبيب بورقيبة حيث تعالى صخب الأحزاب السياسية في هرولة أخيرة لإبتزاز أصوات الناخبين بعيدا عن الحلم والصدق والإبداع التي إحتضنها مسرح الحمراء. فتحية خالصة لليلى طوبال وعز الدين قانون وكل الفنانين الصادقين الذين يحبون البلاد كما لا يحب البلاد أحد رغم الضباب المخيم ومحن الواقع.

شيراز بن مراد

الخميس، 18 سبتمبر 2014

مسرحية «السقيفة» لحافظ خليفة: عمل مسرحي ضخم يسلط الضوء على تجاذبات أوّل مؤتمر إسلامي عقب وفاة الرّسول

 أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب يواجهان رموز الحكم السابق في «سقيفة» حافظ خليفة
من الأعمال الفنية اللافتة التي ستعرض في مستهل العودة الثقافية، مسرحية «السقيفة» للمخرج حافظ خليفة الذي أفادنا أتّه سيرفع السّتار عن عمله الجديد منتصف شهر نوفمبر بعرضه في مهرجان أربيل للمسرح الدولي بالعراق. وصرّح المخرج أنّه اشتغل على هذا العمل الضخم بمعيّة مجموعة من المسرحيين والمؤلفين على غرار الكاتب بوكثير دومة والمخرج حمادي المزي والمسرحي كمال اليعلاوي.
وبيّن أنّه تمّت الاستعانة بعدد من المراجع لبناء العمل المسرحي ومنها «الفتنة» للدكتور هشام جعيط و«العصبية والدولة» للدكتور محمد عابد الجابري و«السقيفة والخلافة» للدكتور عبد الفتاح مقصود وغيرها..
وتحاول «السقيفة»  تسليط الضوء على أوّل مؤتمر إسلامي تلا وفاة الرسول محمد حيث اجتمع في سقيفة بني ساعدة عدد من الصحابة من المهاجرين والأنصار ودارت بينهم مفاوضات خلصت في النهاية الى إختبار أبو بكر الصديق كأوّل خليفة للمسلمين وقد تعدّدت الروايات حول ما حدث تحديدا في السقيفة التي تمثل أهم جذور الخلاف السني ـ الشيعي ونقطة خلاف دينية وتاريخية..
وذكر حافظ خليفة أن مؤتمر السقيفة يعتبر حقلا خصبا للبحث والاستعارة الفنية من خلال الدلالات وخاصة ما حصل من تجاذبات لتحديد وجهة الخلافة بعد الفراغ السياسي الذي أحدثه موت الرسول صلى الله عليه وسلم...
وتحلينا وقائع «السقيفة» الى وضعنا الحالي وما فيه من تقلبات سياسية وحكم مؤقت بني على فراغ سياسي صنعته ثورات الربيع العربي إذ أنّ ما حصل بالسقيفة منذ قرون هو شبيه بما حدث وما قد يحدث لمستقبل اللعبة السياسية بالوطن العربي فأبو سفيان أحد   العناصر الأساسية من مكونات الدولة العميقة قبل الإسلام (بإعتباره كان سيد قريش) وكرمز لفئة كانت تحكم يسعى للعودة للسلطة كبديل وحيد متمرس باللعبة السياسية.. 
ويحذّر النص المسرحي من خلال استعارات سياسية من عودة جلادي الماضي في القريب ليكونوا حاضرين بيننا ويعدّون العدّة للاستحواذ على السلطة تماما كما فعل أبو سفيان عندما مهّد لبناء الأساس الأوّل للدولة الأموية من خلال ذريته معاوية ويزيد..
وبخصوص شخصيات المسرحية وهم الصحابة الاجلاء عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وأبو بكر الصديق، فحاولت المسرحية تجريدها من جانبها القدسي لتحكيها شخصيات درامية فاعلة لتأسيس اللبنة الأولى لدولة جديدة.. وأفادنا خليفة أنّ العمل يحاول نحت شخصيات حسب المنظومة المعاصرة للعبة السياسة بالاعتماد على الإستعارة بين أحداث السقيفة وخيارات المشهد السياسي المعاصر بعد ثورات الربيع العربي. وتجدر الإشارة إلى أنّ النصّ المسرحي وهو من تأليف الأستاذ بوكثير دومة، جمع بين العاميّة والفصحى بهدف التخلص من النمط التاريخي والاقتراب أكثر ما يمكن من انتظارات ومسامع المتفرج التونسي والعربي..
هذا وستعتمد «السقيفة» على سينوغرافيا منفتحة ومتحولة معتمدة بالأساس على الإنارة، وهو تمشي سبق لحافظ خليفة أن تميّز به في مسرحياته السابقة على غرار مراحيل أو طواسين.
شيراز بن مراد

المخرج المسرحي وليد دغسني: كلّما غاب الفنّ، اتسعت رقعة التوحّش

 يعكف المخرج وليد دغسني هذه الأيّام على وضع اللمسات الأخيرة للمسرحية الجديدة التي سيقدمها بداية شهر نوفمبر تحت عنوان «الماكينة».. وأفادنا وليد دغسني أنّ عمله حظي بدعم وزارة الثقافة الذي لم يصل بعد، وبتعاطف فضاء التياترو لتوفيق الجبالي وزينب فرحات اللذين وفّرا قاعة للفريق المسرحي حتى يتسنى له القيام بتدريباته في أحسن الظروف. 
وذكر المخرج الشاب أنّ نص المسرحية مستوحى من «العودة الى الصحراء» لبرنار ماري كولتيس، وهو نص يتطرق لعلاقة الشرق بالغرب، فكيف تتشكل هذه العلاقة ولماذا يذهب في اعتقاد المواطن العربي أنّه ضحية مؤامرة ومخططات خارجية، حتى باتت الثورة مؤامرة وهروب بن علي كذلك وداعش صناعة أمريكية ـ صهيونية؟ 
وفي هذا السياق، يتساءل دغسني: «لماذا نحاول تفسير واقعنا بما هو متخف وراء الستار؟ لماذا نعيش على الوهم، في حين أنّه لو نذرنا البعض من وقتنا للتفكير في حالنا بمعزل عن الآخر، لاستطعنا أن نخلق واقعا جديدا بعيدا عن رمي التهم وإلقاء المسؤولية على عاتق الآخرين». 
على شاكلة الواقع المتردي الذي تعيش فيه، تعاني الشخصيات الخمس في «ماكينة» الدغسني من حالة مرضية غير ظاهرة للعيان. فالأبطال متعلقون بالوهم وبحلم «الماكينة» التي يمكن أن تغير واقعهم نحو الأفضل..

 المسرح مهدّد بالاندثار إذا لم تدعمه الدولة
 وليد دغسني الحاصل على عدة تتويجات عربية يدعو إلى دعم المسرحيين الشبان الذين أثبتوا وجودهم حتى لا يندثروا أمام الأعمال التجارية ذات الجدل العقيم بعيدا عن ترسيخ قيم الحرية واحترام الآخر... فالمسرح ـ وفق رأيه ـ مهدد بالزوال في غضون 5 سنوات ناهيك أنّ الشركات المسرحية صغيرة ورأس مالها ضعيف. وما عدا الأعمال الكبيرة التي شاهدناها لتوفيق الجبالي وللفاضل الجعايبي ولعزالدين قنون وجعفر القاسمي أو صالح الفالح من الجيل الشاب، لايوجد فعل مسرحي مؤسس وأغلبية الفاعلين لهم رغبة في الكسب مما يفقد الثقافة بعدها الإبداعي.

 إذا لم تحترم الدولة الفن، فعلينا أن ننتظر أتعس من داعش 
برهافة حس الفنان وتوثب الشباب، يقول دغسني : «إذا لم تحترم الدولة الفن، فعلى الدنيا السلام..علينا حينها أن ننتظر داعش وأتعس من داعش.» بل دعا مخرج مسرحية «التفاف» إلى مراجعة الفعل الثقافي، لانه في ظل غياب للمراجعات، تبقى الثنايا مغلقة وجامدة ويظل المشهد الثقافي مجرّد «تزيين» مثلما كان عليه الحال قبل الثورة.. وعاب محدثنا على المسؤولين والسياسيين عدم اهتمامهم بالشأن الثقافي معلقا : «ما الذي بنى الحضارة منذ الإغريق إلى الآن؟ أليس هو المسرح؟ هل يعقل أن تبقى المدينة دون مسرح؟ انظروا إلى أمريكا وفرنسا وألمانيا، هذه الدّول كبرى أيضا بمسرحها وسينمائها».
وأضاف محدّثنا أنّه من مسؤولية المثقف مصارحة وزارة الثقافة بقصور نظرتها للمهرجانات التخصصية، وبضرورة ارساء تبادل حقيقي للأفكار والتصورات بين الوزارة والفنانين حتى لا تبقى الثقافة موسمية ومجرد ذرّ رماد على العيون... فكلمة الفنان وفق دغسني أصدق في بعض الأحيان من كلمة السياسي الراغب في السلطة عكس الفنان الذي عادة ما يكون متشبعا بالإنسانية وبقيمها.

 لولا المسرح، لكان عدد قاصدي سوريا مضاعفا
وشدّد دغسني على أهمية تدريس المسرح في المعاهد التونسية مؤكدا أنّ فوائده كثيرة بالنسبة للتلاميذ وقال: «لو لم يكن المسرح، لكان عدد قاصدي سوريا مضاعفا. فتلاميذ السابعة والثامنة والتاسعة لهم قابلية كبيرة للانسياق وراء الخطابات المتطرفة، والمسرح احدى نوافذ فتح الآفاق لسد المنافذ أمام الكارثة.» وفي هذا الإطار استحضر وليد دغسني حالة مدينة قبلاط من ولاية باجة التي يدرّس فيها قائلا: «إنّ قبلاط تفتقر لدار ثقافة، فقد تم حرقها منذ الثورة... وتساءل دغسني لماذا يتواصل هذا الوضع ناهيك أنّ المدينة مهدّدة ومهمشة رغم أنّها منطقة فلاحية بامتياز.

ثقّف المجتمع تكن الشعوب ديمقراطية
 واستأنف دغسني كلامه قائلا: «كلما غاب الفن توسعت رقعة التوحش»، مضيفا أنّ العالم العربي آيل للانقراض إذا غابت الإبداعية عن المجتمع.. كما دعا محدثنا إلى الالتفات إلي ليبيا وسوريا والعراق التي وجدت فيها داعش والحركات المتطرفة تربة حاضنة سهلت توسعها بالنظر الى التضييق على الثقافة ومساحات الإبداع... «فلنُثَقِّف المجتمع ونشحنه بالثقافة التحررية، حينها ستكون الشعوب ديمقراطية» يختم وليد دغسني.
قريبا على خشبة المسرح «ماكينة» لوليد الدغسني

ـ انتاج: شركة كلندستينو بدعم من وزارة الثقافة
ـ دراماتورجيا واخراج: وليد دغسني.
ـ اداء: اماني باللعج ـ اروى بن اسماعيل ـمنير العماري ـ مكرم سنهوري ـ كريم الغربي
ـ الملخص: في جزيرة نائية .. سفينة ركاب تتعرض الى عطب مفاجىء ... تطول مدة التوقف ويتحول الانتظار الى خوف .. مع اكتشاف جريمة قتل غامضة .. صحفية تتقفى أثر القبطان وتكتشف اسرار الدسائس والمؤامرات داخل القيادة.. وتجد نفسها فجاة متورطة في كل مايحدث دون علمها، ودون ان تفهم سر الماكينة.. 
شيراز بن مراد