من تلك “الموجة الي خلاّت الخضراء دمار” إنطلقت الحكاية.. حكاية عجوز تدعى حياة (جليلة بكار) ترفض الإستسلام للتسوماني التيولوجي الذي هزّ بلادها بعد الثورة، فتقاوم وتصمد في وجه من يسعون بإسم الدين الى دفع البلاد في معاقل الإستبداد والإضطهاد والظلم.. وبلغة مباشرتية مستحبة، يروي الفاضل الجعايبي مخرج مسرحية “تسونامي” أطوارا متتالية من الأحداث التي عرفتها بلادنا منذ 14 جانفي إنطلاقا من التضامن والمحبة وصولا الى فاجعة إغتيال شكري بلعيد قبل أن تسقط في منزلق خطير رفعت قيه الرايات السوداء وإستفحل فيه الفكر الديني المتطرف الذي لا يعترف بالحقوق والحريات وفق سيناريو المسرحية.
وفي مقابل تلك الموجة المندفعة، تصمد مويجات العجوز حياة ويقاوم الفنانون والحقوقيون وحتى إعلام العار يرفض أن يهوى صرح تونس المتفتحة والمتسامحة.. لكن المواجهة ليست بالسهلة، فيقتل من يقتل ويسجن من يسجن ويضطهد من يضطهد.. ولعل المغزى السياسي لهذا العمل المسرحي، الذي عرض يوم الثلاثاء 16 جويلية بمهرجان قرطاج الدولي بحضور قرابة 8 آلاف شخص، يتمثل في ضرورة التجند للدفاع عن مدنية الدولة وحقوق المرأة وحرية الإبداع والتعايش السلمي أمام نزعات السلطة الحاكمة لتكبيل وتقييد مقومات حرية الإختيار بإسم الدين..
وأسوة بالرسالة السياسية الواضحة المعالم التي توّجه بها الثنائي الجعايبي- بكار في عمله الأخير “يحي يعيش” والتي كان مفادها أن كل سلطة طاغية متجبرة سالبة للحريات نهايتها الخسران والإندثار، تضمنت مسرحية “تسونامي”رسائل متعددة على السياسي الفطين أن يتوقف عندها ليدرك معانيها إذ فيها تكمن أسرار خلاص وطنه وسلامته.. آه لو كان السياسيون على قدر فطنة الفنانين، لتجنبنا آلاما وجراحا وأمواتا يتحمل وحدهم المسؤولون وزرها.. ولعل الطريقة التي توخاها الجعايبي لتبليغ عدد من مقاصده تدخل في خانة المداوة بالصدمة (thérapie de choc) وذلك من خلال توجيه لكمات فكرية توقظ وتوّعي بخطورة ما قد تؤول له الأوضاع إذا ظلت القوى المؤمنة بالمدنية وبالحريات وبالمساواة منقسمة ومتشذرمة..
ومن المقاطع الافتة للإنتباه، ذاك المشهد الذي يبدو فيه الممثلون وكأنهم في جزيرة نائية يبحثون عن الخلاص، او ذلك المشهد الذي تزاحم فيه النشيد الوطني مع نشيد مستورد وممول بدولارات الوهابية، او ذلك المشهد الكوميدي الذي تقول فيه البطلة حياة إنه قيل لنا “لا خوف بعد اليوم” غير أننا صرنا نعيش في حالة رعب دائم. أو المقطع الذي تظهر فيه الفنانة فاطمة بن سعيدان في شكل مختلف تماما عما عهدناها به، إذ أطلت بثوب مغري ولبست جلباب الصحفية “الدلوعة” التي توغل في الإستهتار بما تعيشه البلاد من قضايا مصيرية، فتحاور المحامي رمزي الباهي (تقمص الدور الممثل رمزي عزيز) الذي يدافع على كبرى قضايا الحريات وكأنها تحاور فنانا عائدا لتوه من لبنان الزيف والسطحية.
في تسوماني، كانت الغلبة للكلمة على حساب التعبير الجسماني.. كانت الكلمة بمثابة القوة الضاربة، بمثابة الموجة العارمة التي تقيأت سخطها على العنف وعلى قتلة الحلم وزارعي الفتن. كما عاهدت نفسها أن لا تصمت قائلة: “بإسم النور والظلمة، بإسم الأحمر والأبيض، بإسم العدل والمساواة، بإسم المحبة والتسامح، بإسم الإبداع والحرية، لن نسكت ولن نسكت ولن نخضع”.
لم يتنبأ الجعايبي في “تسونامي” بكيف ستكون تونس سنة 2015 (الإطار الزماني للمسرحية) لأن المسألة لا علاقة لها بالتنبؤ، بل ذهب بمخياله الى صورة قصوى.. صورة تونس تحت سطوة حكم تيولوجي مستبد لا يعترف بالحرية ولا بالفن ولا بالفكر الحر، ولا بالحقوق، ولسان حاله يقول إن لم تقاوموا وإن لم تناضلوا من أجل مدنية الدولة وحرية التعبير والحداثة فسيكون مصيركم حالك مظلم وعنيف، فهل تستفيقون قبل فوات الأوان؟
شيراز بن مراد