من منّا في طفولته، لم يستمع الى حكايات الغولة المخيفة التي كانت ترويها الجدّات والأمّهات لتحذير اطفالهنّ من هذا السلوك أو ذاك؟ لكن ما هو مصير «الغولة» اليوم وأين اختفى هذا الإرث اللغوي الذي عمّر خيال أجيال وأجيال من الأطفال التونسيين؟
حول «أسطورة الغولة»، قدّم الفنان الناصر خمير معرضا احتضنته قاعة الأخبار بالعاصمة طول مدّة أيام قرطاج السينمائيّة. ويطرح المعرض الذي ينقل تجربة الناصر خمير مع المخيال التونسي، العلاقة الموجودة لدينا بين الموروث الشفوي والصورة، بين العادات والحداثة.
ينفتح المعرض على لافتة تتضمن مقولة لحمادي الصيد جاء فيها ما يلي: «متى نفهم انّ الخلاص من كل أزماتنا يتوقّف على تجديد ثقافتنا» في اشارة لضرورة الوعي بثراء مخزوننا الحضاري وبأهمية مجادلته وتجديده لأنه يشكّل هويتنا وأحد أبرز مقوّمات ذواتنا.
ويشمل معرض الغولة مجموعة من الصور العملاقة التي تجسّد «الغولة» في تجلياتها المختلفة، فهذه «غولة» خطفت طفلا صغيرا، وهذه «غولة» التهمت عددا من الدجاج والخرفان، وهي لوحات شارك في رسمها بعض أفراد عائلة الناصر خمير سنة 1974 بمنزله الكائن بجهة قربة.
وسعى خمير من خلال هذه التجربة -مثلما ذكره رسام القرافيك محي الدين لبّاد- الى تفجير الكنوز المخبّأة فينا: كنوز الحضارة العربيّة الاسلاميّة المختزنة فضلا عن تفجير ملكة الخيال والابداع التي تتميّز بها هذه الحضارة، والتي طمسها مجتمع الاستهلاك وعاداته المكتسبة عن الثقافات المستوردة.
ويرى خمير ان اللقاح الحقيقي لمجتمعاتنا يكمن في معرفة حقيقية للتراث لأنّه الأداة التي تُعين على بناء الذات والوصول الى مرتبة تجعلك تتفاعل مع الانسانيّة كاملة ولاتعيش كالقطيع.. فلو رُبّي اطفالنا بالحسّ والمذاق والفكر لما تردينا الى هذا الحضيض وما أمست ديارنا ديار حرب.
وتكشف الرّسوم والمخطوطات التي عرضها خمير كيف يمكن ان يكون الإرث والتقاليد منطلقا للابداع، وكيف يمكنها ان تقدّم لأبنائنا ثقافة مرتبطة بماضينا مما يجعلنا نتجنّب موتا انتروبولوجيا مؤكدا قد تنتج عنه هويات قاتلة او قد يدفع نحو اهمال هذا الارث.
فعندما يكون هناك موت أنثروبولوجي، يقول خمير، ينقسم المجتمع إلى جزئين: أولئك الذين لا يكترثون للأمر معتبرين ان إندثار الموروث لن يغير في الأمر شيئا، وهذا يُعدّ في نظره إجراما، وفي المقابل هناك شق ثان يدعو الى العودة الى الجذور ولكنه يقتصر على الجانب الديني مع إلغاء تام للموروث الثقافي، وهو ما يزرع ثقافة الموت. وبين هذا وذاك، هناك عمل غيبناه ويتمثل في تجديد موروثنا الحضاري حتى بتنا نعيش بين فكي ثقافة الموت ومجتمع الاستهلاك. ويواصل خمير: «لنكن صريحين مع أنفسنا: ليس هناك حرية دون إبداع حقيقي».
والى جانب اللوحات، تضمّن المعرض عددا من الكتب التي نشرها الناصر خمير ومنها كتاب «حكاية الغولة» الذي صدر سنة 1975 عن دار ماسبيرو للنشر بفرنسا، ثم كتابه «شمس بين حيطين» الذي ضمّ مجموعة من الروايات التي روتها له والدته «أم الخير»، وكتاب «شهرزاد» و«حكمة الاسلام» وغيرها من الكتب الموجهة للأطفال.
ونعتقد انّه كان حرّيا بوزارة الثقافة ان تُبقي على هذا المعرض لفترة أطول من أسبوع، فمجهود ابداعي من هذا القبيل كان يمكن ان يدوم أكثر في «الحبيب بورقيبة» الشارع الرئيسي للعاصمة الذي غابت عنه الثقافة ونخرته المقاهي ومحلات الأكلة السّريعة.
شيراز بن مراد