بين جغرافيا الأوطان وجغرافيا الذاكرة، دعتنا الفنانة مفيدة فضيلة من خلال معرض "أرسم لي العالم" -الذي يحتضنه رواق "لابوات" الموجود بمقر مجمع الكيلاني بجهة الشرقية- الى استكشاف أفكار تتعلق برؤيتنا للعالم وبتموقعنا فيه... فأي عالم نعيش فيه؟ هل هو مجموعة أوطان أم وطن بالتحديد؟ هل هو حدود مرسومة هنا وهناك تفرّق بين البعض وتجمع بين آخرين؟ أم هو ذاكرة الجسد المتنقل هنا وهناك؟ أم «إنّنا الجغرافيا، لولا السلاسل في القدمين» مثلما يقول الكاتب علي مصباح؟
حول تيمات الجغرافيا والجسد والذاكرة، والتي تحمل بين طيّاتها حدودا شفافة وخيوطا مرتعشة وثنايا غير ثابتة، تمحور العمل الفني لمفيدة فضيلة ليرسم الثابت والمتحول، المؤكد والمشكوك فيه، الباقي والهارب، المركزي والثانوي، المستقرّ والمتلاشي، الهنا واللاهنا متحديا المسلّمات والإتفاقات المزيّفة والوثائق المغشوشة والتواريخ المشؤومة.
ولتبليغ مقصدها طلبت الفنانة مفيدة فضيلة من مجموعة من الأشخاص أن يرسموا لها العالم أو «فكرة العالم» كما تبدو لهم.. فرسم أحدهم الجزائر كمركز العالم، ورسم آخر نقطة وحيدة، وبدا العالم لآخر كمجموعة من القارات ذات حدود "متراقصة"، واستهزأ آخر من العالم ليرسم الفراغ.
وتُقدم اللوحات المعروضة، بهذه الطريقة، نظرة بعضنا للعالم ولحدوده وجغرافيته. وعلى هذا الأساس تدفعنا مفيدة فضيلة الى طرح السؤال الآتي: "هل نحن أكبر من الجغرافيا أم إنّ الجغرافيا أكبر منا؟" فاتحة أبواب التفكير أو بالأحرى الإستفزاز. إستفزاز "بوليس الحدود" و"نقاط التفتيش" و"التأشيرات الورقية" و"جغرافيا الأوطان الكاذبة". فإذا كان الإنسان حبيس بعض الحدود الوهمية التي رسمتها القوى المنتصرة، فإنّ ذاكرته ومخياله يتجاوزان كل الحدود الملموسة، ليسافران به الى أبعد نقطة، إلى أقصى حلم، إلى أشسع المروج والصحاري تماما كالأمير الصغير بطل الكاتب سانت اكزوبيري.
وفي السياق نفسه، تدحض مفيدة فضيلة بمقترحها الفني كلّ النظريات والقرارات السياسية التي تعيق حرية تنقل الانسان، فماذا يعني جدار برلين وماذا يعني الجدار العنصري الفاصل الذي شيّدته إسرائيل على الأراضي الفلسطينية وماذا تعني الحدود المغلقة بين المغرب والجزائر، وماذا تعني الجدران الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل من معنى للجغرافيا ولحواجزها امام الذاكرة الحرّة والمخيال الخصب؟
وقد بدا لنا كذلك أنّ مفيدة فضيلة اقتفت في معرضها ضربا من ضروب «الضياع» و«التلاشي» وهي ضروب لا تعترف بحدود الجغرافيا الرسمية بل تتجاوزها لترمي بذور الحرية هنا وهناك، حرية الوجود أو على عكس ذلك تماما التلاشي والضياع مع كل ما يمكن أن تهديه الطبيعة من فضاءات ومن خيال خصب يتحدى كل أنواع العوائق.
تنظر مفيدة فضيلة الى العالم لا كفضاء مغلق دُبرت حدوده بالليل، بل كفضاء مفتوح على الآخر وعلى الخيال والجسد الحرّ والذاكرة المتحركة، فترسم عالما آخر غير معترف به في قواميس الجغرافيا ولا في العقول الجامدة، عالما منفتحا على بعضه، تغيب عنه الأحكام المسبقة والجدران العالية وبطاقات الهوية الثابتة ليفسح المجال للحلم وللتواصل والحرية وللإنصهار مع عناصر الطبيعة والأفكار الشاعرية التي تلملم شظايا الإنسانية المتبقية.
- يتواصل معرض "أرسم لي العالم" برواق "لابوات" الموجود بمقر مجمع الكيلاني بجهة الشرقية الى غاية يوم 12 سبتمبر.
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق