في هذا البلد، تأبى الشمس أن تشرق في وجه كل أبنائها.. يدير القرص الأحمر وجهه لينسدل الليل في وضح النهار.. في هذا البلد يطول الطريق، تتوجع الدواخل وتحبط العزائم، في هذا البلد محكوم عليك بأن تعيش دون أفق، أن تظلّ حبيس حيطان التهميش التي أنجبتك.. ناس كجمل البروطة، يرابطون في مكانهم وأقدامهم مسلسلة دون أية إمكانية للإقلاع وللتحليق.
في إحدى ضواحي العاصمة تونس، وتحديدا بجهة «المحمدية»، نصب المخرج حمزة العوني كاميراه ليصوّر طيلة سنتين حياة الشابين «خيري» و«وشواشة»، شابان غادرا مقاعد الدراسة مبكرا بسبب قسوة ظروف الحياة ليلتحقا بمهنة ترصيف «القرط» في الشاحنات، فيرسم معانتهما، أحلامهما وخيباتهما.
وعلاوة عن بورتريه الشابين، يتجلى في شريط «جمل البروطة» بورتريه بلد اسمه تونس، بلد غني بثرواته الطبيعية بمروجه وسهوله الخضراء. على هذا التناقض الصارخ بين الإحباط والوفرة، يرفع العوني أوتاد شريطه ليقدّم بورتريه متداخل عنيف وموجع لبلد «ضيّقها» على أبنائه حتى باتوا يحلمون بمغادرته. دون هوادة، عبرت الشخصيات عمّا يسكنها من غضب، ودون هداوة نقلت الكاميرا حجم البراكين المشتعلة.
في المحمدية وهي المدينة التي نشأ فيها المخرج حمزة العوني، تعيش عائلات عديدة على الهامش، بلا مرافق دنيا. قد يكون الاب قابعا في السجن وقد يكون فرّ الى ليبيا، وقد يكون الشبان امتهنوا «النطرة والنشل» لتوفير قليل من المال لسدّ الرمق اليومي.
في هذه الاحياء يغيب كل شيء ما عدا الحلم بالهجرة أو الحلم بواقع أفضل، وهذا ما لمسناه في شخصية البطلين «خيري» و«وشواشة» اللذين جسّدا واقع الالاف من الشبان التونسيين في صراعهم ضد الواقع المرير في بلد تعطب فيه المصعد الاجتماعي فبات الخروج من حلقة التهميش المفرغة صعبا إن لم نقل محالا.
ينادي حمزة العوني في فيلمه الوثائقي-الشاعري بإعطاء الفرصة للشباب المهمش، بالاستماع اليه، بعدم إصدار أحكام مسبقة عليه، ففي تونس تسكن الطيبة قلوب المهمشين، صحيح قد يتحوّلون في يوم ما الى نشالين، الى قطاع طرق بحكم قساوة الظروف لكن الطيبة والحلم بحياة لائقة يظلان قائمان وتظل فرص الانقاذ ممكنة، هذه هي رسالة حمزة العوني المبطنة.
تواصل الشاحنة المحملة بالقرط «علف الحياة» سيرها في الليل الحالك بعد أن سهر على شحنها «المعذبون في الأرض». ترافق كاميرا حمزة العوني الشاحنة في ليلها المُتدرج الى الفجر.. ذلك الليل الطويل الذي يحدوه الامل. يظهر «خيري» و«وشواشة» بكلامهما الفج البذيء وبأغانيهما الشعبية المعبّرة فيرويان الظروف والاحلام، الإحباطات والامال، إذ لم يصغ اليهما احد ماعدا كاميرا السينمائي والفنان، ذلك الذي لا يطمع لا في كرسي ولا في مال، بل كلّ همّه أن ينقل ما تحاول أن تحجبه السياسة وخطابات السياسيين.
بلا مساحيق وبلا نفاق، يقدّم حمزة العوني في فيلمه الذي تحصل على عدّة جوائز منها الجائزة الفضية في الدورة 25 لأيام قرطاج السينمائية وجائزة أفضل مخرج في مهرجان أبو ظبي السينمائي، يقدّم بورتريهات صادقة من واقع تونسي كاسح، واقع تضطر فيه بعض النسوة لجمع بقايا القرط الملقى على الطريق بسبب قلة ذات اليد، واقع يدفع بأبنائه لكي يضرموا النار في أجسادهم بعد أن اوصدت في وجههم كل الأبواب هذا إن لم ينتحروا لأن الحياة فقدت طعم الحياة.
قد يُزعج فيلم حمزة العوني البعض بفجاجة ألفاظه ووقاحة شخوصه، لكنه ازعاج مستحب، ازعاج ضروري، انساني حتى يستفيق البعض منا على الواقع المرير للبعض الاخر، حتى يستفيق الساسة من سباتهم، حتى ندفع في اتجاه شيء من العدالة الاجتماعية، حتى لا يظل شق من التونسيين يعيشون على الهامش، هذا ما قاله فيلم «القرط» لحمزة العوني ببساطة وعنف.
-يتواصل عرض فيلم "جمل البروطة" لحمزة العوني بكل من قاعات الكوليزي بتونس، مدار قرطاج ، اميلكار المنار، اقورا المرسى والبالاص سوسة.
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق