الثلاثاء، 11 فبراير 2014

«عبث وتولّى» لحبيب المنصوري: عندما تتحدى الاجساد عبث المتسلطين الجدد

قدم المخرج الحبيب المنصوري يوم الاربعاء 5 فيفري بقاعة الفن الرابع مسرحية «عبث وتولى» تقمّص شخصياتها عدد من الممثلين الشبان على غرار حسني الزعيشي ومراد بن نافلة وهناء شعشوع وأيمن بن عمر وفاتن الشوايبي. وتطرق هذا العمل الفني إلى العبث الذي عرفته البلاد بعد الثورة، عبث متسلطين جدد رمى بأبناء الوطن على محك الحيرة والسؤال، وذلك من خلال طرح اعتمد وراهن على خيار الجسد، فكان أن اجتمعت الاجساد وتفرقت وتصارعت وتشكلت من جديد، أسوة بعرائس الصلصال، لتفتّك هي أيضا فضاء للتعبير بعد أن عبثت بها أقدار السياسة لتضعها في قلب رحى أو في دوامة يستحيل فيها الهدوء.
دون تأنّ أسقط الحبيب المنصوري في عمله المجتمع فوق ركح المسرح، كمن يفرغ ما في جرابه من أفكار ورؤى، فتجادل الافراد وتجاذبوا حول ما يشغلهم من قضايا سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو دينية. ومن خلال هذا الاسقاط يتعرّض المخرج إلى دور المسرح في المجتمع، أليس هو ذلك الفضاء الذي يمكن أن تواجه فيه الافكار بعضها، في قالب كوميدي أو تجريبي أو درامي بأسلوب حضاري وبمنأى عن كل أشكال العنف والاقصاء؟
 وبفضل حركية الاجساد والتلميح فقط، يثير المنصوري في «عبث وتولى» عدة مواضيع منها موضوع المسرح نفسه من خلال توجيه تحية الى أسماء مسرحية بارزة غيّبها الموت لكنها ظلت حاضرة بأثرها الفني ومنها عبد الوهاب الجمني وعلي بن عياد وغيرهما ليؤكد المنصوري دور المسرح في تخليد رجالات الفن الرابع والفكر بصفة أعم.
أمّا المحور الثاني الذي أولاه المنصوري أهمية كبرى ولو بتقشف كبير في الكلمات، فله علاقة بالفعل السياسي إذ توالت اللوحات التي عبرت بكلمات معدودات عما يعيشه البلد من حراك، فعندما يهتف الممثلون باسم الغنوشي مثلا، نفهم رمزية الشخصية وحجم الدور الذي يلعبه في المشهد السياسي في البلاد.. وعندما تنطلق كلمة «حمار وحشي» من شفتي أحد الممثلين نفهم الموقف من «الحوار الوطني» الذي تابعناه مؤخرا.
 ويواصل المنصوري تشهيره بالمتسلطين الجدد على هذا النحو، بقليل من الكلمات وبكثير من التعبير الجسماني، ولعل عبارة «انت حرّ» الوجيزة التي صدع بها احد الممثلين تختزل وحدها رسالة هامة تخلق القطيعة مع من ارادوا تلجيم الكلمة الحرة وتتبنى مبدأ حرية الاختيار، كما تذكّر أبناء الوطن بواحد من أهم حقوقهم ألا وهو الحرية.
هذا وتطرح المسرحية تيمة لا تقل أهمية عن سابقاتها وتتعلق بثنائية التغطية والتعرية، فبين من يتخفون وراء ملابسهم وبين من يرغبون في الكشف عن أجسادهم تتعدد التأويلات والتجاذبات والضغوط، كل حسب هواه وانتمائه ورؤاه.. لكن اللافت في طرح المنصوري هو ذلك التسلط الذي يبديه بعضنا في محاولة لفرض قناعاته على الآخرين، وهنا يكشف المسرح خيوط هذه اللعبة داعيا المتفرج للوعي بخطورة هذه التصرفات وبضرورة اقتفاء اثر الاختيار الحر دون الخضوع لسيطرة هذا أو ذاك.
ولأن المسرح فضاء نقد المتاح وغير المتاح والمباح وغير المباح، ولأنه فن يعمل على هدم المسلّمات، فإن المنصوري تعرض من خلال احدى اللوحات الى المسألة الدينية معتبرا أنها يمكن أن تكون هي أيضا محلّ تساؤل واجتهاد ونقد وذلك وفق نظرة فنية تعمل على تجاوز الممنوعات والمناطق المحظورة، فكل المواضيع قابلة للنقاش ولاعمال العقل طالما أنّ للانسان فكرا وبصيرة..
 وبشعرية فائقة انتهت المسرحية على وقع قصيدة «حالة حصار» التي تدفقت فيها كلمات الشاعر محمود درويش كالماء الهدار متماهية مع تنقل الممثلين فوق الركح ومنادية بـ «تربية الامل ولو عند المنحدرات وأمام الغروب وفوهة الوقت وقرب البساتين المقطوعة الظل».
لئن قال ويليام شكسبير إنّ الدنيا مسرح كبير وإنّ كلّ الرجال والنساء ماهم سوى لاعبين على هذا المسرح، فإن المنصوري عكس الآية ليقول إنّ المسرح هو الدنيا وهو الفضاء الذي يمكن أن تعاد فيه صياغة الاشياء وتتعدد فيه التأويلات وتتشاكل فيه الطروحات والمواقف دون حدود، فالمسرح هو فضاء الممكن والمستحيل، هو فضاء المتناقضات والحلم والتعبير الحر بعيدا عن كل أشكال العداء والإقصاء، وهي العبر التي بدا لنا انّ المنصوري حرص على تبليغها للجمهور.
شيراز بن مراد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق