«نعرف أنّه ضرب من ضروب الجنون وأنّنا محظوظون جدّا عندما نعود الى البيت سالمين.. ورغم هذا فسنواصل العمل والتصوير».. هكذا تحدث مراسل الحرب الجزائري نسيم بومزار في فيلم «الحي يروح» للمخرج أمين بوخريص الذي افتتح الدورة الثالثة لملتقى مخرجي الأفلام التونسية يوم الاربعاء 12 فيفري بقاعة الكوليزي.
حول هذه المهنة المليئة بالمخاطر والمشاق والتي يغامر فيها مراسلو الحرب بحياتهم في المناطق الساخنة وفي بؤر التوتر وفي ساحات الوغى في مختلف أنحاء العالم، أنجز المخرج أمين بوخريص فيلمه الوثائقي الطويل الأول. وقد أفادنا أمين أنّ مقتل الصحفي ومراسل الحرب لوكاس دوليغا يوم 14 جانفي 2011 إثر إصابته بعبوة مسيلة للدموع في إحدى عينيه بشارع الحبيب بورقيبة شكلّ المنطلق لفيلم سعى إلى كشف «العرق والملح والدم» الذي يلازم مهنة مراسل الحرب مضيفا أنّ الأحداث التي عرفتها تونس في الأيام الأولى من الثورة والتي عمل خلالها كمصور لفائدة وكالة أسوسيايتد براس جعلته يعي بالمخاطر التي تحف بمهنة الصحفي الذي يغطي وقائع الحرب.
من فلسطين، تحدث مراسل الحرب اياد حمد الذي صورت كاميراه عدة بؤر توتر في العالم ومنها بالخصوص الصمود الفلسطيني في وجه الجنود الاسرائيليين الذين يوغلون في الإهانة وفي الصلف وقمع الفلسطينيين العزل... يقول إياد حمد «كاميراتي هي سلاحي» في محاولة لحماية نفسه معنويا من كل الأخطار التي تعترض طريقه وتهدد حياته. وقد بدا لنا أنّ حمد يستحق لقب "المحارب" الذي لا توقفه أي قوة امام نقل الحقيقة.
ونقلت كاميرا مراسل الحرب نسيم بومزار عدّة مشاهد من الثورة التونسية وكذلك ما يحدث في سوريا من دمار، وقد دخل بومزار الى الأراضي السورية خلسة عبر الحدود التركية متوجها الى مدينة إدلب التي نقل منها مشاهد الحطام والخراب التي حلت بها. وذكر بومزار الذي غادر سوريا بأعجوبة أنّ هذا البلد «من المناطق الساخنة جدا».
ومن المشاهد القوية جدا والمؤثرة في فيلم «الحي يروح»، ذلك التصوير النادر الذي نقلته كاميرا الصحفي جمال عزالديني مراسل أورو نيوز الذي صور اللحظات الأخيرة من حياة مراسل الحرب لوكاس دوليقا.. ففي التاكسي الذي نقلهما الى المستشفى، كان جسد دوليقا ملطّخا بالدماء قبل ان يغادر هذا العالم بعد أن عمل دون هوادة ولا كلل على نقل الصورة الحقيقية بكل أمانة. وفي هذا الصدد، ذكر لنا المخرج أمين بوخريص أنّ العثور على هذا التسجيل تطلب منه سنة كاملة من البحث والإتصالات.
وإجمالا يمكن القول أنّ فيلم «الحي يروح» بتغطيته لعمل مراسل الحرب في عدة أماكن في العالم حاول أن يبوّئ هذه المهنة الخطيرة المكانة التي تستحقها بالنظر للتضحيات والمخاطر التي تلازمها وقد لا يتفطن إليها أيّ منا وهو مستلق أمام شاشة تلفازه على أريكة مريحة في بيته.
وإلى جانب تصوير اللحظات الأخيرة من حياة مراسل الحرب لوكاس دوليقا، تضمن شريط «الحي يروح» شهادة أخرى لا تقل أهمية وتتعلق بحياة مراسل الحرب الفرنسي ريمي أوشليك... فقد كان أوشليك في تونس يوم 14 جانفي 2011 وعبّر لكاميرا أمين بوخريص عن شديد ألمه لوفاة زميله لوكاس دوليقا، غير أنّ الاقدار كتبت لريمي مصيرا مشابها لدوليقا اذ قتل أوشليك يوم 22 فيفري 2012 بحي بابا عمر بسوريا إِثر قصف جوي وذلك عندما كان بصدد أداء رسالته الصحفية...
ثم تنقلت كاميرا أمين بوخريص الى بعض المقربين من لوكاس دوليقا وريمي أوشليك لتنقل لوعة مخفية، لوعة الأقرباء أو الأحباء الذين يفقدون عزيزا عليهم... وقالت نتالي صديقة لوكاس دوليقا بكثير من المرارة إنّ لوكاس كان ينقل بتجواله «قصة الانسان والعالم».
وإلى جانب هؤلاء، إستمع أمين بوخريص لشهادة مراسل الحرب البلجيكي ـ المغربي أحمد بهادو الذي يتنقل بكاميراه بين ليبيا وسوريا وتونس وغيرها من المناطق المشتعلة في العالم... تختنق العبرات في حلقه وتنهمر الدموع من عينيه لتروي حساسية هذه المهنة التي تصور يوميات الموت والدم والدمار.. إنّ حبّ المغامرة يسكن أعماق بهادو، لذلك ما انفك يسافر ليصوّر معترفا امام كاميرا بوخريص بأنّه حتى لو فقد ساقيه فسيبحث عن طريقة لتعويضهما من أجل مواصلة العمل.
ومن المشاهد التي إستوقفتنا في فيلم «الحي يروح» تلك اللقطات التي تحدت الموت والدمار وسعى من خلالها المخرج لإبراز الأمل والحياة اللذين يخرجان من صلب المأساة، فمن ليبيا ومن تونس فجّرت القيتارة والأرمونيكا في أنغامهما لتشدو الحلم والتفاؤل، وكأن بأمين يحاول أن يعكس بصيص الأمل الذي يمكن ان ينبت من قلب الدمار.
«حياة على صفيح ساخن» تلك هي حياة مراسلي الحرب الذين يضعون قدرهم ووجودهم على حافة الهاوية من أجل صورة صادقة أمينة ولنقل بشاعة الحرب وضراوتها وفظاعتها وكيف يصبح الدم البشري بخسا دون قيمة تحت أقدام اباطرة الحرب. وقد نجح أمين بوخريص في إيغالنا في هذا العالم المغلق الذي تستهدفه السموم من كل صوب مذكرا إيانا بأنّ 201 صحافيا قتلوا بين سنتي 2011 و2013 عندما كانوا بصدد أداء واجبهم الإعلامي.
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق