السبت، 22 فبراير 2014

"ياسـمينة وأسـماء الحـب الستون" للناصر خمير: دانتيلا بصرية شعرية لأمجاد الماضي وانهزامات الحاضر

هل تكلمت ياسمينة أم تكلم الوطن؟ هل نطقت بطلة فيلم «ياسمينة وأسماء الحب الستون» للناصر خمير أم نطقت أوجاع حضارتنا العربية الإسلامية؟ تساؤلات عديدة يدفعك إليها المولود السينمائي الجديد للمخرج التونسي الناصر خمير الذي كشف خلال العرض الأول للفيلم في إطار الدورة الثالثة لملتقى مخرجي الأفلام التونسية، أنّه أقرب الأفلام الى قلبه..
 فمن خلال شخصية ياسمينة «الخالة الكبرى»، يستعيد الناصر خمير شيئا من التاريخ، تاريخ عالمنا العربي منذ سقوط غرناطة سنة 1492م إلى غاية يومنا هذا بكل ما فيه من تهميش للإرث الحضاري العربي الإسلامي بفنه وأدبه وعلومه وإزدهاره. من الباب الكبير يوغلنا الناصر خمير في شريطه بمشاهد من احتفالية كبرى اقيمت بإسبانيا احتفاء بمرور 500 سنة على سقوط غرناطة، تظاهرة شارك فيها المخرج بمعرض عن أسماء الحب، هذا المصطلح الذي أطلق عليه العرب قرابة الستين إسما.
من أوّج غرناطة إلى وحدة ياسمينة، يسير الناصر خمير على خيط رفيع جدا مراوحا بين ثراء اللغة وما ترمز إليه من فتوة الحضارة العربية الاسلامية وبين عزلة الكيانات التي اختصرها في عينة انسانية تدعى ياسمينة.  الى عمق ثنائية الثراء والعراء يتدرج بنا خمير مختزلا 500 سنة من التقهقر العربي الإسلامي لينقل حالة الفراغ الوجودي الذي أضحينا نعيش على وقعه.
عبر شخصية ياسمينة التي تدعو الناصر خمير الى ان يساعدها على العثور على ابن أخيها الوريث الذي لم تجده في المقربين منها، يظهر بصيص أمل، فالرغبة مازالت قائمة في التواصل مع الأجيال وربما في مدهم بـ«سرّ الحياة» الذي افتقده العديدون وإن كان نصيب منه مازال عالقا بذاكرة البعض ووجدانهم ككنز منسي يوشك على الفناء.
 تتكلم ياسمينة من بيتها الكائن بمدينة قربة، فتذكُر حقائقنا الأربع، تلك التي لم يعد العقل العربي يعيرها أيّ إهتمام. تتحسر ياسمينة على الماضي وأوليائه الصالحين "سيدي بن فضايل" و"سيدي عبد القادر" في إشارة لماضينا التليد، ثم تقول «يا خسارة.. يا خسارة.. يا خسارة..» ثلاث مرات لتؤكد حرقتها على تاريخ مضى وعلى زمن تنكر فيه الأولاد لمن أنجبوهم، تنكر العرب لآبائهم وعلمائهم وفلاسفتهم وشعرائهم.. ثم تردف قائلة: «يزيني من الكذب» لتواجهنا بحقيقة مُرّة أخرى وهي النفاق وأقنعة الزيف التي أصبحت سمة من أبرز سماتنا نحن العرب.
وتضيف ياسمينة العجوز التسعينية في السياق نفسه «كذّابة وسفهاء.. بصوردي يبيعوك»، أليست هي التوصيفة الأمثل لحال سياسيينا اليوم؟ أليس في كلام ياسمينة ما يحيل على واقع العالم العربي الحالي الذي طُبع بالنفاق والهرولة ؤراء المصالح وتجاهل ثراء الإرث الحضاري العربي؟
وعلى وقع اعترافات ياسمينة، لا بهزائمها الشخصية بل بهزائم الوطن، يُشهر الناصر خمير «معجم الحب لدى العرب»، ليبرز ثراء القاموس الأدبي العربي في مجال الحب، ملمّحا الى المفارقة الإنسانية الغريبة التي سقطنا فيها. بين ذروة الحضارة ومنحدر الفراغ، بين هرم اللغة وسطوح الخواء. فهل تدرك أجيال اليوم كل الثراء اللغوي الذي يصاحب هذه الكلمة؟ هل نعرف أنّ للحبّ أكثر من 60 مرادفا وفي هذا دلالة واضحة على غنى الفكر العربي الذي لم يكتف بمصطلح واحد لوصف تشعب هذا الشعور الأزلي.
بين مصطلحات "الوجد" و"الشوق" و"الألفة" و"الهيام" و"الشجن" و"الود" و"الصبابة" و"التيه" و"التيم" و"الحنين" وغيرها، يأخذ الناصر خمير بيدنا كمن يأخذ بيد تائه في الصحراء فيسقيه من كأس الحب، كلمات ومعان وتفاسير قد تزيل الظلمة عن سماء الضياع. أفليست اللغة أول وعاء للحقيقة؟ ولماذا ننسى أنّ الروح تنبعث والحياة تنبت والخلاص يتحقق بين ثنايا اللغة؟
وفي ترحاله بين الشرق والغرب، بين العوالم التي كانت تملك وتلك التي أضحت تملك، يوجّه الناصر خمير كاميراه، في لقطة عجائبية تسائل النفس والزمن، الى جبل قاسيون الدمشقي في محاولة روحية لإستحضار وهج عظماء الشعر على غرار أبي نواس وأبي فراس الحمداني والمتنبي مكبّرا في الآن ذاته صورة الهوّة التي ما فتئت تتعمق يوما بعد يوم حتى أضحينا «أشباه شعوب» تنكرت لماضيها وخذلت حاضرها، وحتى موتاها فقد قابلتهم بالجحود.. وفي هذا السياق، يٌعلق الناصر خمير على مشاهد مُزرية صوّرها في إحدى المقابر التونسية التي كستها الأعشاب وعبثت بها بعض الأيادي لتحوّلها الى ما يشبه مصبّا للفضلات، فيقول: «التنكر للماضي ليس إلا مصيبة المستقبل... إنّ الموت لا يمثل شيئا لكن التخلي على الموتى مصيبة للأجيال القادمة".
وتجدر الإشارة الى أنّ الناصر خمير صوّر فيلم «ياسمينة وأسماء الحب الستون» بواسطة كاميرا صغيرة الحجم إقتناها سنة 1992 لتصوير ترحاله ويومياته في محاولة، وفق ما جاء على لسان المخرج، لتثبيت صور لذاكرته التي أضحت شفافة من كثرة التجوال. وقد فوجئ "برواية ياسمينة الشفوية تغمره من كل جانب لتفصح عن سرّ دفين وهو الذي كان غريبا هنا وغريبا هناك، يعيش المنفى بين غربتين، بين التقويم الغربي والتقويم الهجري، بين مأساة ياسمينة وسفره الى قلب اللغة العربية عبر أسماء الحب فيها".
في «ياسمينة وأسماء الحب الستون»، واصل مخرج «طوق الحمامة المفقود» و«بابا عزيز» و«بحثا عن محيي الدين» رحلته السينمائية ذات الطابع الروحي ونبشه في أمجاد الماضي وانكسارات الحاضر، فجاء شريطه بمثابة الدانتيلا الشعرية البصرية التي تسائل النفس عن معنى وجودها وعن مصيرها، فكيف لنا أن نسهو عن أننا شعوب ذات مجد وتاريخ، ذات حضارة وفكر وثقافة؟ ثم أليس من العبث والعدمية أن يصل بنا الانهيار والتقهقر الى هذه الدرجة؟
شيراز بن مراد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق