غير بعيد عن الأرض، كوكب استحالت فيه الحياة، كوكب ارتعشت فيه الموسيقى وتدافعت فيه الأجساد بعنف بحثا عن أضواء طال انتظارها... فوق هذا الكوكب الذي حكمه قانون الغاب، دفع مصمم الكوريغرافيا عماد جمعة في عمله الأخير "آفالونش" -والذي عرض نهاية الأسبوع الفارط بقاعة المونديال- براقصيه واحدا بعد الآخر، كمن يدفع بمصارعيه فوق حلبة «الشوط الأخير»، فإمّا يفرضون وجودهم قسرا وإمّا يندثرون إلى الأبد...
على وقع ثنائية البقاء والاندثار، اهتزت أجساد متساكني «الكوكب الآخر» في محاولة لاقتلاع "التذكرة الأخيرة" قبل أن يفوز بها آخرون أكثر حيلة وأشدّ مكرا... وقد بدا الممثلون-الراقصون في عرض «أفالونش» كمثل ركّاب لوحة «طوف الميدوزا» الذين واجهوا مصيرا مأساويا بعد أن تحطمت باخرتهم في عرض البحر، فتعلقوا بطوق النجاة آملين أن يهبهم الإله فرصة حياة ثانية.
على كوكب عماد جمعة تبدو الحياة وكأنها سيرك إنساني ـ حيواني يطغى عليه الجانب الغريزي البدائي، سيرك حاكى فيه أحد الممثلين الفيلة المهددة بالانقراض وخطا خطاها الثقيلة وهي تلاحق فريستها، وتماهت ممثلة أخرى مع ملك الغاب المُهدد في عرشه، وتشبهت ممثلة أخرى بالغوريلا التي تضيق بها الآفاق فتصول وتجول في محاولة للخلاص من قضبان النهاية. ثمّ يٌطلّ من وراء الأحراش، راقص بتبان أزرق ويتحرك بشكل دائري راسما حدود فخ جديد لا يتوانى عن السقوط فيه مرة بعد أخرى وهو يستمرئ هذا الانهيار المتتالي.. ألم نتعود على الخيبات والانهزامات؟
وتتوالى اللوحات الراقصة الواحدة تلو الأخرى على وقع تسجيل موسيقي مثير لترسم ملامح عالم متوحش، قائم على قاعدة "البقاء للأقوى" وعلى الصراع والخوف من الآخر... فكيف للفرد أن يفرض نفسه وقانون الغاب غلب قانون العقل، وكيف للفرد أن يصمد أمام همجية المحيط؟
وفي مراوحته بين عالمي الانسان والحيوان، يستفزنا المخرج عماد جمعة من خلال تصاميمه الكوريغرافية بضراوة مواجهاته وبالعنف الكامن في رقصاته ولسان حاله يقول إنّه مازالت أمامنا أشواط وأشواط لكي نلتحق بركب «الانسانية».. مازلنا لم نتخلص من تلك القشور «المتوحشة» التي تنبعث منها رائحة الدم والفتك بالفريسة الى آخر رمق، إلى آخر فتات.. وفي ذلك إحالة مباشرة على العالم الذي نعيشه بكل ما فيه من عنجهية وغطرسة وحروب دامية وعبثية مقيتة مميتة...
من خلال عرض "آفالونش"، ويوحي العنوان الى فكرة الإنهيار، يدفعنا المخرج عماد جمعة للتفاعل لوقف الإنحدار وللتساؤل عن «انسانيتنا المزعومة»، فما أقرب «الجنس البشري» من الطقوس الحيوانية وما أدناه من غريزة القتل وما أكثر نزعاته نحو الوحشية..
ولن تفوتنا الفرصة دون التنويه بالأداء المميز للممثلين-الراقصين مروان ايروين ووائل مرغني ومريم بوعجاجة وآمنة مولهي وباديس حشاش وكريم تويمة ووفاء الثابتي ومحمد الشنيتي وعماد جمعة الذين طوّعوا اجسادهم في سبيل مشهدية عنيفة ومقاومة وثائرة، مشهدية غابت عنها الكلمة فعبرت بالحركات وحدها عن حالة الغليان التي يعيشها سكان «الكوكب الآخر» :تدافع، عنف، بربرية، حيرة ومحاولات لفرض الذات..
من على طوف النجاة، وتحت شعاع قمر مضيء تجمع متساكنو «الكوكب الآخر» لكي يطلقوا نداءهم الأخير نداء الأمل المتبقي عسى أن ينتفي الكابوس يوما... عسى أن يذوب جليد العنف والقتل، عسى أن تحن القلوب التي لم تلن يوما، عسى أن تدّب الإستفاقة من سبات الوحشية، عسى أن تنبت عروق إنسانية حق غير تلك التي يزعم البعض منا استبطانها.. عسى أن نلحق بنقاوة جذع الشجرة الأخضر الذي ثبّّته عماد جمعة في سقف الركح... فهل نلتحق يوما بركب الإنسانية؟
شيراز بن مراد تصوير: ياسين مالوش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق