عُرضت مسرحية «الموعد» أو «في انتظار قودو» لكاتبها سامويل بيكيت مئات المرّات إن لم نقل آلاف المرّات في شتى مسارح العالم... كلّ يقتبس هذا النص ليخرجه وفق رؤيته الخاصة، فماذا أضاف المخرج التونسي غازي الزغباني لهذا النص الكوني الذي يروي قصة أناس بقوا في حالة انتظار، في انتظار قدوم «منقذ» ينتشلهم من الحضيض الذي سقطوا وترّدوا فيه، والذي يطرح أسئلة حارقة حول الإنسان الذي يعجز أو بالأحرى يتقاعس في التفكير وفي تقرير مصيره بنفسه، فيبقى رهينة الآخر وقرار الآخر...
وكم من شعوب ظلّت في «حالة انتظار» وفي «حالة احتضار»، في انتظار المعونة وفي انتظار قرار «الزعيم الأكبر» وفي انتظار أن يغذوها ويعلّموها ويزوّجوها ويرسّموها ويدفنوها طالما أنّها عاجزة على خلق ديناميكية بمفردها وعلى إثبات ذاتها ورسم مستقبلها... وهي تيمة انسانية طرحها العمل الأصلي للكاتب الإيرلندي سامويل بيكيت سنة 1952 واقتبسها عديد المخرجين لما فيها من سبر لأغوار إنسان لم يغيره لا التاريخ ولا الجغرافيا بل ظلّ سجين رؤية ضيقة وأفق منغلق رغم ما حُبيّ به من عقل ومن قدرات ذهنية قد تسمح له بـ«قلب الطرح» وبالخروج من دائرة الجمود والخمول.
يدعو إذن غازي الزغباني نص سامويل بيكيت الى تونس ليسأل المتفرج من خلال بطليه عمران (غازي الزغباني) وسليمان (معز بن طالب) عن معنى الانتظار الإنساني، فهل ننتظر أم نبادر؟ هل نلازم أماكننا أم نثور على واقعنا؟ هل نبقى نتابع المشهد من فوق الرّبوة أم ننزل الى الميدان؟
يرابط عمران وسليمان في مكانهما وفي حالتهما «الحيوانية»، فلا هما قادران على إعمال فكرهما ولا هما ساعيان الى تغيير واقعهما، بل هما التسجيد الأدق لسجن العقل وانعدام الثقافة وموت قيم الحرية والتحرر.
ويمكن القول إنّها التيمة التي حرص غازي الزغباني على إبرازها بوضوح، فعندما تغيب الثقافة والفكر والعلم عن مجتمع ما، يعود إلى حالته البدائية: يجمد وينكفئ على نفسه ويصبح عاجزا عن المبادرة والتفكير وعن الإبداع. يعترف عمران بذلك فيقول: «على خاطرنا نستناو في قودو، أحنا مشرفين الرهط الإنساني»، ويواصل قائلا: «أخيب حاجة التفكير، خايف لا نكونو فكرنا» ليؤكد حالته الحيوانية تلك التي توجد على طرف نقيض مما تفترضه الحالة الإنسانية من إعمال للفكر والعقل... ويجيبه سليمان: «لازمنا نعملو برشه حاجات باش نحسو رواحنا عايشين» في محاولة للخروج من الحلقة المفرغة التي سجنا نفسيهما فيها..
إلى أن تأتي «الفاتقة» (يسر عيشاوي) تلك المرأة "الشرانية" ذات الصوت الجهوري، فيعتقد عمران وسليمان أنها «قودو» الشخص الذي سيخلصهما من واقعهما المتردي، لكن هيهات، فالفاتقة هي نموذج للمرأة النرجسية المتسلطة التي لا يمكن أن يُرجى منها أي شعاع إنساني.. استعبدت خادمها «الهافت» (الطاهر الرضواني) وسلبته انسانيته حتى أضحى بمثابة «الروبو» الذي يتحرك ويرقص ويتكلم ويفكر وفق مشيئتها هي وحدها..
وهكذا ترسم مسرحية «الموعد» صورة شعب سلبت منه حقوقه وقيّدت أيديه ولجمت أفواهه حتى أضحى يعيش على الهامش، في حالة توّحش وفراغ روحي وخواء فكري. شعب في حالة انتظار قصوى وفي حالة عجز دائم، عجز عن إفراز الحلم واعمال العقد وإثبات الذات.
بقي شيء هام يجب أن نلفت إليه الانتباه، وهو أنّ المخرج غازي الزغباني أزال القيود عن نص سامويل بيكيت، فحرّره من جديّته ليضفي عليه لمسة هزلية وموسيقية أكثر من مميزة توّفقت في المزج بين الطرح الفلسفي الجدي والطرح الفني «المجنون» فتلازم كلاهما طوال المسرحية وتسللت الى القلوب "دمعة وابتسامة"، دمعة الذي يشهد على إنحدار الإنسانية الى الدرك الأسفل وابتسامة الفن الذي يمكن أن نعلّق عليه -وحده- الأمل بعد أن يملأ قلوبنا وعقولنا غليانا وانشراحا وأملا.. وذاك هو الانطباع الأبرز الذي خرجنا به بعد مواكبة مسرحية «الموعد» التي افتتحت يوم 15 ماي 2014 الدورة الأولى لأيام الأرتيستو المسرحية.
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق