بلاد أضحى فيها الأحرار والثوار يحاكمون بتهمة السكر والزطلة، بلاد أصبح فيها تقبيل الإناث يقود الى السجن، بلاد أصبح فيها الشعراء باعة متجولين، بلا أهينت فيها «عزة» حبيبة أحمد فؤاد نجم.. هي البلاد التي رسمها المخرج حافظ خليفة في مسرحية «زنازين النور» بأقلام التراجيديا والمهزلة...
فمن على أرض غابت شمسها وإنطفأت شموعها وحجبت أنوارها، يطل البطلان (عيسى وأحمد في إيحاء للفنانين الشيخ إمام عيسى والشاعر أحمد فؤاد نجم) لينقلا فصولا من التراجيديا الإنسانية التي يعيشها العالم العربي اليوم، تراجيديا السلطة وتراجيديا الفن وتراجيديا التطرف وتراجيديا المرأة وكلّها تيمات غذّت العمل المسرحي الجديد للفنان حافظ خليفة الذي قال عنه إنّه «يحاكي ما يعيشه الوطن العربي في الآونة الأخيرة ويسلط الضوء على المعاني والمعاناة الجديدة وعن النور الذي أمسى سجين زنازين مظلمة».
ويضيف حافظ خليفة أنّ «زنازين النور» عمل يكرّم روحي الفنانين الأصيلين الشيخ إمام عيسى والشاعر أحمد فؤاد نجم لم كابدا من آلام ونضال من أجل نهضة الأمة وعرفا به من تصدّ وتمرد على المنظومة الرسمية وعدم الإستكانة لأي ظلم»...
تنطلق المسرحية عندما يغادر البطلان معتقلهما ويحاولان اكتشاف ملامح العالم الذي عادا إليه بعد غياب طويل، فيفاجآن بواقع سريالي لم يكن يتوقعانه وبأحداث لا يمكن ان تدلّ إلاّ على انحدار انساني عميق نحو الأسفل ونحو البلاء، فقد استبدل البلد شعاره بشعار «الجزارة» أي سيف وسكاكين وساطور، وأضحى الحاكم يقضي بقطع أيدي المجرمين، أمّا المعارضة فهي من الكبائر وحكمها الذبح وقطع الرأس، وأمّا المستحب فيها فهو جهاد النكاح والمهمات الجهادية.
وبنفس نقدي وهزلي واضح، يتطرّق نص «زنازين النور» الذي صاغه الكاتب إبراهيم بن عمر إلى معاناة عالمنا العربي الذي سالت فيه الدماء وقتلت فيه البسمة وسلبت منه الهمسة، فغاب عنه كل ما هو إنساني وجميل لتطفو على سطحه ظلمات التعصب والجهل والإقصاء ولتنحسر الأنوار في زنازين ضيقة ومعدودة.
وهكذا يرسم حافظ خليفة خارطة دراما العالم العربي الجديدة، تلك التي هُمّش فيها الفن ووئدت فيها المرأة وإستتبت فيها البربرية وبات معجمها الوحيد يتكون من مصطلحات الذبح وقطع الرؤوس والأيدي والأحزمة الناسفة بعيدا عن قيم الفن والثقافة والتحرّر والاحترام والعلم.
ويواصل حافظ خليفة تعمقه في زمن انقلبت فيه المفاهيم وتغلبت فيه قوى الشر على قوى الخير ليدفع بالمتفرج إلى طرف النفق و«ليهديه» صورة قاتمة وقصوى عما يمكن أن تصل اليه البشرية من تقهقر اذا ما كرّس التطرف والتسلط والجهل موليا أهمية قصوى لدور المفكر المثقف والفنان الذي بدا لنا في هذا العمل المسرحي بمثابة «الضمير الحي» الذي يصمد ويقاوم مختلف أوجه الطغيان.
ومن بين القضايا التي طرحتها «زنازين النور» مكانة المرأة في العالم العربي وذلك من خلال قصيد «عزة» للشاعر أحمد فؤاد نجم، فقد أهينت عزة والمرأة بصفة عامة تلك التي اتخذ منها نجم رفيقته وحبيبته والتي مثلت الصدر الذي بكى عليه وحمّل إليه شكاواه... فأعاد القصيد النقاط على الحروف وتمايلت الممثلة عواطف بن فرج من وراء حجاب أحيط بها، فنفضت غباره وقالت بتعابيرها الجسدية الكثير عن هذا الكائن المرغوب فيه والمكروه في آن واحد وعن مكانة المرأة في مجتمعنا.
ومثل أعماله السابقة (مراحيل وطواسين وزريعة إبليس)، أولى حافظ خليفة أهمية كبرى للمشهدية وللتصور الركحي الذي راوح بين النور والظلمات وبين نزعات الحياة وسكرات الموت، ومن أكثر المشاهد التي شدتنا في «زنازين النور» ذاك المشهد الصاخب التي هاجت فيه أمواج عاتية وشق فيه البطلان عباب البحر أملا في الالتحاق بضفاف جديدة، فتعالت الموسيقى ومعها اليم الأزرق في مشهد ملحمي ذي جمالية فائقة شكل نقطة ذروة مسرحية «زنازين النور» وكأنّ بحافظ خليفة ساحر مسرحي يفعل بركحه ما يشاء خدمة لرسالته الفنية التي تسمو بالإنسان وتبعده عن صغائر الحياة..
في «زنازين النور» تدافع الهزل مع التراجيديا ليرويا قصة عالمنا العربي الحزين الذي هُمش فيه المثقف وحوصرت فيه الحريات وأهينت فيه المرأة وتسلط فيه الماكرون والجبناء، لكن ظلّ فيه ضمير الفنان دائما متقدا يشاكس ويقاوم ويستهزئ صامدا أمام كل أشكال الموت وخنق الإنسان.
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق