رائحة قهوة فوّاحة تسرّبت إلى أنوف المتفرجين الذين واكبوا يوم الجمعة الفارط عرض «قهوة»، لحفيز ضو وعايشة مبارك الذي قدّم للمرة الثانية في ملتقى قرطاج للرقص.. فمن تحت كوم فناجين بيضاء، استلّ حفيز ضو ركام جسده شيئا فشيئا.. ورغم أنه كان يجهل ما حدث له بالضبط، فقد كان متأكدا أنّ نورا فجريا سينير دروب الحياة التي كتبت له من جديد..
فيتحامل على نفسه ويتلوّى ويتمرّغ بحثا عن بصيص أمل إلى أن تتناهى إلى مسمعه كلمات الشاعر محمود درويش، كلمات من قصيد «مقهى وأنت مع الجريدة» فتفتح عينيه حول تلك السعادة البسيطة التي يمكن أن يشعر بها وهو جالس في المقهى، مع جريدته «نصف كأسه فارغ والشمس تملأ نصفها الثاني»، وتذكّره بالحرية التي ينعم بها والتي يعبّر عنها درويش بقوله: «كم أنت حرّ أيها المنسي في المقهى فلا أحد يرى أثر الكمنجة فيك ولا أحد يحملق في حضورك أو غيابك، أو يدقق في ضبابك إن نظرت إلى فتاة وانكسرت أمامها..»
تدغدغ تلك الأشعار حفيز وتحرّك ما بداخله غير أنّ أثر الكلمات مهما كان قويّا، لا يكفي أحيانا لطيّ الصفحات، خاصة عندما يكون الجسد والروح مجروحين.. لكن حفيز يصرّ على الإقلاع ليهدي المشاهدين لوحة فنية متميزة ينعتق فيها من مكبّلات جسده ويجنّح مثل طائر البطرس المنتشي باسترداد حريته، فيعزق الجو شمالا يمينا، ثم يلامس الموجات المتلاطمة ويستعرض أجنحته رغم أنف الشمس والرياح..
ولأنّ الحرية لا يمكن أن تقتصر على حرية الجسد، ينزع حفيز ثوب طائر البطرس ليرتدي جبّة الصوفي الذي يبحث عن غذائه الروحي، فيضع الجمهور مرّة أخرى أمام لوحة كوريغرافية معبّرة يحاكي فيها حركات الدراويش الراقصين الذين يدورون حول أنفسهم بحثا عن صفاء روحي يقربهم من الإله.. واللافت للنظر أن حفيز ضو وعائشة مبارك لم يسقطا في فخ الاستسهال، فاختياراتهما على مستوى الموسيقى والأضواء والحركات كلّها تدلّ على حسّ فني مرهف، حسّ فنانين انصهرا مع كلمات محمود درويش ليعبّرا بالحركات عن توقهما لأفق جديد ينبع حياة ويفيض ايقاعا..
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق