السبت، 26 أبريل 2014

فيلم «الشلاّط» لكوثر بن هنية: خنجر سينمائي يعرّي العقد و«التابوهات» والتهميش

من واقعة «الشلاّط»، تلك القضية التي هزّت الرأي العام التونسي سنة 2003 بعد إقدام أحد المجهولين على «تشليط» مؤخرة 11 امرأة تونسية، انطلقت المخرجة كوثر بن هنية لتغرز كاميراها ـ مشرطها في الواقع التونسي في محاولة لكشف نوعيّة الجرح الذي يشكو منه الوطن، وذلك من خلال فيلم يمزج بين الوثائقي والروائي ويطرح سؤالا جوهريا: «ما هو المجتمع الذي يمكن أن يفرز أو يصنع «الشلاّط» ذاك المجرم الذي يجرؤ على الاعتداء على الحرمات الجسدية لنساء كنّ بصدد المرور من الشارع من باب الصدفة لا غير؟» 
ومن باب الجرح الغائر والغادر، حاولت كوثر بن هنية ملامسة «الوجيعة التونسية» فكان أن إنتقلت الى حي الزهور، أحد الأحياء الشعبية المتاخمة للعاصمة بحثا عن «الشلاّط» وقد قيل آنذاك إنّه جلال الدريدي وهو من أبناء المنطقة... فصورت بن هنية الشارع التونسي والوجوه التونسية والمواقف والشهادات المتضاربة بين موافق على «تشليط» مؤخرة النساء «لأنهنّ غير مستورات» وبين رافض لهذا العمل الإجرامي... وذهبت المخرجة إلى أبعد من ذلك لتقترب من «نبض الشارع التونسي» بكل ما فيه من عنف وكذب وممنوعات.
ثالوث العنف والكذب والممنوعات
 وقد ارتكز فيلم «الشلاط»، وهو من إنتاج شركة سيني تيلي فيلم، على هذا الثالوث المميّز للمجتمع التونسي: عنف + كذب + ممنوعات ليؤكد أوّلا أنّ عملية البحث عن الحقيقة ليست بالعمل البسيط وليس أدّل على ذلك أنّنا ورغم مرور 10 سنوات على حادثة «التشليط»، مازلنا لا نعرف حقّا من يقف وراء هذه الواقعة، وليبرز بما لا يدع مجالا للشك خصوصيات موجعة من التركيبة المجتمعية التونسية، فـ«الكذب» حالة وتقليد تونسي لا يمكن نكرانه، و«العنف» آفة متأصلة في تعاملاتنا و«المنع» عقلية توارثناها عن الجدود، فالتعبير الحر ممنوع والاختلاف محظور والخروج عن القالب الاجتماعي مرفوض وكذا كذا محرم وقائمة الممنوعات طويلة جدا لا يمكن حصرها ولا وضع حدّ لها...
شباب لم تبتسم له شمس الحياة
في «الشلاط»، لم تسع كوثر بن هنية الى كشف تفاصيل من الواقعة الإجرامية الغامضة التي شهدتها بعض شوارع تونس سنة 2003، بل تجاوزتها لتروي بطريقتها المهمشين منا، وكم رقعتهم ممتدة! المهمشين من شبابنا ومن كبارنا، أبناء تونس الذين لم تبتسم لهم شمس الحياة بل نهشتهم الحاجة وأنهكهم الضيم ودمرهم التهميش... وفي هذا السياق، نستحضر مقطعا من الفيلم أقرب الى السريالية يظهر فيه شاب دأب على تنظيف القبور وهو بصدد آداء أنغام سمفونية بمقبرة، وهذا المشهد يعكس وحده المفارقة الكبرى التي تعيش على وقعها نسبة من الشباب التونسي، فهذا الشاب مكانه الطبيعي مسرح الفن والإبداع لا مسرح الموت والنسيان، شأنه في ذلك شأن الآلاف من الطاقات التي لم يحالفها الحظ ولم تُفتح في وجهها ثنايا الأمل.
سوبرانو يغني في مقبرة، فتاة تنتحر بعد أن سرقت حمالة صدر، شباب تائه بين الدين والحداثة، تونسيون يحاولون فرض ذواتهم رغم التهميش والإقصاء... هي بعض من الوجوه التي حاول فيلم الشلاط تصويرها ليرسم «بوزل» تونسيا خاصا تحضر فيه الطيبة والحلم والأمل وتشوبه أيضا الانحرافات والسلوك الإجرامي ...
وقد بدا لنا أنّ كوثر بن هنية سعت إلى  «أنسنة» الفئات الاجتماعية التي تعاني من الأحكام المسبقة بسبب حلقة  التهميش التي فرضت عليها فصوّرت طيبتهم وتونسيتهم وأحلامهم البسيطة مزيحة الرداء الأسود الذي يحيط بهم ويزيد من انغلاقهم على أنفسهم.
في عمق المخيال الجنسي
وبنبرات من الكوميديا السوداء، تتوغل المخرجة في المخيال الشعبي الجنسي، فتنقل شهادات ومواقف تقول الكثير عن علاقة الرجل بالمرأة وما يحف بها من محاذير وحريّات في آن.. ومن بين ما يصوّر الفيلم، الدمية الجنسية التي تباع في عدد من الأسواق التونسية وكذلك «محرار العذرية» الذي يلتجئ إليه بعض الرجال لمعرفة إذا ما كانت شريكة حياتهم المستقبلية عذراء أم لا؟ ومن خلال هذه الأمثلة، تعكس المخرجة كمّ العقد والمخاوف والمسكوت عنه والتابوهات التي تغذي «الشخصية التونسية» وترفع الغطاء عن القدر التونسي المضغوط لتغوص بنا في عمق جرح تعفن بفعل التهميش والإقصاء حتى أصبحت فئات واسعة من الشباب تعيش في انتظار «حرقة» إلى بلاد الطليان، أو في ترقب معجزة لن تأتي أبدا.. 
كما غرز الشلاط مشرطه في مؤخرة 11 إمرأة تونسية، عملت المخرجة كوثر بن هنية على دسّ خنجر سينمائي حاد في نفوسنا.. فأسال فيلمها دما أسودا مثخنا بأوجاع مجتمع ترهل واهترأ بفعل السياسات التي وأدت الأحلام وهمشت الطاقات حتى أضحى البلد أشبه «بفبريكة» لصنع المهمشين والمتعبين على الأرض.
شيراز بن مراد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق