يُستهل فيلم «باب الفلة» بمشهد مقبرة يوحي بالموت وبالفجيعة في إيحاء إلى الوضعية التي كانت عليها البلاد أيام حكم بن علي... ومن خلال قصة درامية تتصاعد فيها الأحداث والجرائم والخيبات العاطفية، يزيح المخرج مصلح كريّم الستار عن مجتمع خلفي، حاول النظام البائد إخفاءه بشتى الوسائل والطرق، فكشف تعفن جراح مجتمع رزح تحت وطأة الجهل، مجتمع حوصرت فيه الثقافة وتلاشت فيه القيم.. ومن خلال نماذج اجتماعية جرفها تيار الانتهازية والجهل والعنف: شخصية رجل الدين الانتهازي (محمد المورالي) و«باربو» الحومة (فتحي الهداوي) ومجنونة الترجي (فاطمة بن سعيدان) والبسيكوبات (يونس الفالحي) ورجل الشعبة (منصف السويسي)، يرسم مصلح كريّم صورة لبلد متآكل ومنخرم بفعل عاهات ضربته في الصميم... بلد همّش فيه الفكر وطغت عليه نزعة الربح السريع حتى أضحى بمثابة صندوق المفاجآت الذي اذا تجرأت وفتحته فستصدم بها يعج به من كوارث وفواجع...
حول التيمات التي طرحها الشريط والصعوبات التي اعترضته، كان لنا لقاء مع الخرج مصلح كريّم الذي شدّد على أهميّة الثقافة في مجتمعنا كدرع واق ضدّ كل الأخطار..
حول التيمات التي طرحها الشريط والصعوبات التي اعترضته، كان لنا لقاء مع الخرج مصلح كريّم الذي شدّد على أهميّة الثقافة في مجتمعنا كدرع واق ضدّ كل الأخطار..
أول سؤال يتبادر للذهن هو هل إنّ سيناريو الفيلم مستوحى من أحداث حقيقية؟
كل أحداث الفيلم مستوحاة من الحقبة التي كنا نعيشها، فبطل الفيلم ـ علي بنور ـ يحاول افتكاك درة زروق من خطيبها أسوة ببن علي الذي افتك ليلى من زوجها... خذي أيضا فارس بلحسن في دور الصحفي الذي يريد القيام بتحقيق أيام النظام البائد، فعن أي صحافة حرّة يمكن أن نتحدث ، وقد أحكم عبد الوهاب عبد الله قبضته على الإعلام؟
ومن خلال هذا التحقيق الصحفي، ينزاح الستار، الستار الذي يخفي مصائب هذا البلد، من الجرائم إلى الطوق الأمني الذي كان مضروبا على البلاد، إلى الضغائن والأحقاد، إلى الدعارة، إلى «الصبّة» الى الغدر الى انعدام القيم، الى طغيان عقلية المال السهل واكتساح ثقافة كرة القدم وتفشي الجهل في صفوف شبابنا..
ببساطة، سلط فيلم «باب الفلة» الكاميرا الكاشفة على المجتمع الذي نعيش فيه وعلى قضاياه وعلى رأسها الثقافة التي تمثل في نظري حجر الزاوية الذي يجب أن نوليه أهمية قصوى بعد أن تفشى الجهل وأضحت التفاهات في صدارة اهتمام التونسيين.
وهل لهذا السبب اخترت ان يكون أوّل مشهد من فيلم «باب الفلة» في مقبرة؟
بالضبط! ينفتح الفيلم على مشهد صوّر في مقبرة وهي الصورة التي كان يوحي بها البلد أيام حكم بن علي: شعب ميت، حراكه محدود وتطغى عليه العتمة.. وحتى البطل جياني (علي بنور) الذي يمثّل المثقف الذي يخالف القطيع، فإنّ مصيره أسود وأنهى حياته في ملجأ للعجّز.
ولقد حاولت أن أعكس ـ سينمائيا ـ مرآة على مجتمع يزعم «الامتياز» و«التفوق» ـ وفق عقيدة حاول بن علي تسويقها ـ فإذا المرآة تكشف «عراء ذواتنا» والعاهات التي أصبنا بها: صحافة ميتة، جهل يضرب أطنابه، كبت، قيم مفقودة وأخلاق مهدورة، تعليم منهار وفكر محاصر وثقافة مرهونة... وهذه «تونس الامتياز» التي كنا نعيش فيها...
انتقلت مشاهد الفيلم بين دار جياني المثقف وقاعة السينما والمدينة العتيقة والماخور، فماهي رمزية الماخور؟
ببساطة لأنّنا كنا نعيش في ماخور تشرف عليه «امرأة» من أسوأ من أنجبت تونس.. وهنا أذكّر بأنّ سيناريو الفيلم كان جاهزا منذ سنة 1997، ولهذا تعطل ولم ير النور الا بعد 17 سنة... في «الماخور» الذي كنا نعيش تبخرت المرجعيات ووضعت الكاريزما التي كان يتمتع بها بورقيبة إلى جانب لتصعد مكانه مجموعة من السراق والشطار على رأس البلاد...
وبصفة أعم، لو أزلنا اللهجة التونسية من الفيلم، لأمكن لنا تعميم المواضيع المطروحة على بقية العالم العربي: كبت وجرائم ونهب للثروات وعنف وجهل متفش وثقافة ميتة وصحافة محاصرة..
هناك مشهد مؤثر جدّا في الفيلم، وهو المشهد الذي تقتل فيه إحدى نساء الماخور، فلم هذه البشاعة؟
أوّلا، أوّد أن ألاحظ أنّ موعد الجريمة كان على الساعة السابعة، (السابع من نوفمبر وهو الوقت الذي دقت فيه ساعة الجريمة التي حلّت بالبلد)، فهل هناك أبشع من هذه الجريمة؟ جريمة وأد بلاد بأكملها وارتهان الصحافة وتدجين المثقف ومحاصرة الشعب في حرياته.. زد على كل ذلك مصيبة اسمها «ليلى» كانت تتولى قيادة البلد... والمرأة التي قتلت في المشهد الذي ذكرته تحمل اسم «ليلى».
أبو القاسم الشابي كان حاضرا أيضا في فيلمك، فما هي الدلالة التي قصدتموها؟
افتتحت الفيلم بقصيد «النبي المجهول» لأبي القاسم الشابى والذي يقول مطلعه:
أيها الشعب ليتني كنت حطابا... فأهوي على الجذوع بفأسي
ليتني كنت كالسيول اذا ما سالت... تهد القبور رمسا برمس
ليتني كنت كالرياح، فأطوي... ورود الربيع من كل قنس
ليت لي قوة العواصف، يا شعبي... فألقي إليك ثورة نفسي
وهي الصرخة التي أطلقها الشابي منذ الثلاثينات غير أنّنا لم نسمعها وذهبنا في اتجاه مجتمع فقد فيه الأمل وأجهضت فيه الأحلام.. وأعتقد أنّ الفيلم يمثل دعوة إلى فتح النقاش حول عدد من القضايا التي تشغل المجتمع وعلى رأسها الثقافة.
وهنا أتساءل عن الدور الذي لعبه المجلس التاسيسي وكذلك المعارضة بعد الثورة، هل دافعوا عن الثقافة؟ هل دافعوا عن الفكر؟ هل يعقل أن تمثل الثقافة 0.038 من ميزانية الدولة؟!
ماهي أبرز الصعوبات التي عرفها الفيلم؟
الفيلم تطلب 17 سنة لكي أنجزه وهذا ـ وحده ـ كفيل بأن يبرز حجم الصعوبات التي اعترضته... وقد انطلق تصويره يوم 13 جانفي 2011 بمدينة البطان في ظروف حرجة بسبب حظر الجولان، ومع تطور الأحداث وحرق القباضة والبلدية اضطررنا الى إيقاف التصوير، ولم نعد مجددا الى العمل إلاّ في شهر سبتمبر، وفي الأثناء تغيّر البطل الرئيسي ووقع الاختيار على الممثل علي بنور الذي وجدت فيه عدة خصال.
وتطلب العمل على شخصية علي بنور ـ الذي يظهر كهلا ثمّ عجوزا ـ مجهودات كبرى منها تقنيات «تشييب» الجلدة حتى يبدو مظهره متناسبا مع سنه.. هذا كلّه فضلا عن المشاكل التقنية والمادية التي واجهناها..
وهل تمت صنصرة بعض المشاهد؟
إحقاقا لا، لم يتعرض الفيلم للصنصرة وربّما لو بقي نظام بن علي في الحكم لعرف الشريط مشاكل أخرى..
كيف عشت التهديدات التي استهدفت الفنانين بعد الثورة؟
لن تخيفنا التهديدات مهما فعلوا لكن أعتقد أنّ المسألة فيها قدر من المغالطة، فقد تم توظيف الدين من قبل بعض السياسيين لخدمة مصالح انتخابية بحتة كما وقع غضّ النظر عمّن أدخلوا السلاح إلى البلاد لمآرب أخرى... ونحن الآن بصدد معايشة أشياء دخيلة على مجتمعنا وعلى ديننا وقيمه السمحة... مهما يكن من أمر، على الفنان ألاّ يخاف وأن يواصل صموده في وجه السماسرة وتجّار الدّين...
تبدي اهتماما خاصا بالشخصيات المهمشة؟
صحيح، لي إعجاب بالشخصيات التي تعيش على الهامش وتلعب أدوار نضالية هامة في نفس الوقت، فخذي مثلا الصحفي الفاهم بوكدوس أو الصحفية زكية الضيفاوي التي غطت أحداث الحوض المنجمي.. إنّي أكنّ تقديرا كبيرا لهذه المرأة التي صمدت أمام كل التحرشات والانتهاكات التي تعرضت لها بسبب عملها...
وفي هذا السياق، أنجزت زوجتي خديجة المكشر فيلما وثائقيا حول زكية الضيفاوي، تلك المرأة الشجاعة التي واجهت آلة بن علي الأمنية، وكذلك حول فادية حمدي المرأة التي سجنت لأنّها قامت بما يمليه عليها واجبها.. وهي نماذج من المجتمع منسية ومهمشة مع الأسف.
أهديت الفيلم إلى روح المخرج احمد بهاء الدين عطية، فما سرّ هذا الإهداء؟
هو أقل شيء يمكن أن اقدمه للمخرج أحمد بهاء الدين عطية الذي اعتبره في مقام أبي.. لقد أهديت الفيلم إلى روح والدي الطيب كريّم وإلى روح سيد أحمد، هذا الرجل الذي صنع ربيع السينما التونسية وهاهو ابنه اليوم حبيب عطية يواصل المسيرة...
كلمة أخيرة..
أود أن أوجه تحية للمنتجة خديجة المكشر التي قامت بعمل جبار وأكدت قدرة حقيقية على العمل الإنتاجي بكل ما يتضمنه من مشاق وعراقيل... وإذا لم أخطئ فهي أوّل تونسية تنتج شريطا بهذا الحجم وهذه الكلفة (مليار و100 مليون من مليماتنا)...
• شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق