الأحد، 10 أغسطس 2014

في إفتتاح مهرجان قرطاج: أنور ابراهم على خطى ذكريات من حياة عابرة

بين ذكرى وأخرى، انسابت معزوفات الموسيقار أنور ابراهم كالماء المتدفق بين نتوء صخور تآكلت بفعل الزمن، فإستحضرت الأنغام النافرة والهادئة في آن واحد الماضي والذكريات والحنين لأيّام تلاشت ولم يبق منها سوى صور عابرة.
أمام جمهور قرطاجني غفير وخاصة «سميع»، افتتح الفنان أنور ابراهم يوم الخميس 10 جويلية الدورة 50 لمهرجان قرطاج الدولي بعرض «استذكار» الذي ارتكز على تيمة الذكريات ليستنبط منها قماشة موسيقية راوحت بين الباقي والمتلاشي وبين الذاكرة الفردية والمصير المشترك.
ولتنفيذ عمله الفني، جمع أنور ابراهم بين أصوات الآلات الوترية لاركسترا تالين (استونيا) الذي يضم 12 فردا وأصوات الآلات الفردية لرباعي أنور ابراهم الذي يضم -بالإضافة إليه- كلاّ من عازف البيانو فرنسوا كوترياي (فرنسا) وعازف الكلارينات الجهيرة كلاوس كيسنغ (ألمانيا) وعازف باس بيورن مياّر (السويد).
ورغم المخاوف والاحترازات التي عبّر عنها الفنان أنور ابراهم في أحد تصاريحه الصحفية بخصوص اتساع فضاء المسرح الروماني، وهو الذي اعتاد أن يُقدّم عروضه في فضاءات مغلقة أو مسارح صغيرة، فقد نجحت موسيقاه في رفع رهان أوّل وهو رهان «الهواء الطلق» ووصلت معزوفات ابراهم بكل ما فيها من شحنة الى أذان وحواس الحاضرين الذين كانوا إحقاقا للحق متابعين باهتمام لعمله الإبداعي الجديد والذي قدّمه للعموم لأوّل مرة في افتتاح مهرجان قرطاج. وما عدا معروفتين اثنتين بدت لنا أنها مستعصية نوعا ما على المستمع بحكم منحاها التجريبي وطابعها الحميمي مقارنة بإتساع الفضاء، فقد نجحت بقية المعزوفات في رفع تحدي «الهواء الطلق».
وإلى جانب هذا الرهان السمعي والتقني، يمكن القول إنّ الفنان أنور ابراهم قدّم عملا حمل بصمة خاصة ولو إنّه بقي وفيّا لتمشيه الموسيقي المعهود (برزخ ـ عيون ريتا المذهلة ـ خطوات الخط الأسود وغيرها)، فقد جاءت كل المعزوفات وفيّة الى تيمة الذاكرة بأوجهها المختلفة، الذاكرة الفردية كما الذاكرة الجماعية، تلك التي تنحت وجود الكيانات كما تساهم في نحت مصير الأمم.
وبين هذا وذاك انسابت الأنغام «البراهمية» لتروي برقة موسيقية فائقة شيئا من ذواتنا الهشة تلك التي يمرّ عليها الزمن فيمسح منها الكثير لتطفو على السطح أثار حياة عالقة في الذكرى. وفي هذا السياق، دعانا أنور ابراهم في إحدى المعزوفات التي قدمت في بداية العرض الى التوقف على ضفاف بحر متوسطي في ليلة حالمة وإلى استحضار ذكريات من زمن قديم طال النسيان شيئا من صفحاته وأبقى على أخرى ناصعة لم تهترأ بفعل الزمن.
وفي لعبة موسيقية جميلة راوح فيها ابراهم بين اللحن العذب والزمن المتلاشي، دفع الموسيقار بآلة البيانو الى صدارة إحدى المعزوفات فكان البيانو المحور ونوتاته هي الأفق وكأنّ الحياة يمكن أن تتشكل حول بيانو قديم قاده العزف على خطى شذرات من حياة عابرة.
ثمّ زاوج ابراهم في معزوفة أخرى بين البيانو والعود على أرض عذراء قد تكون بيضاء أو زرقاء سماوية، زاوج بينهما ليروي كيف للذكرى أن تنساب بكثير من اللطف بين صفحات الحاضر. وقد بدا لنا أن ابراهم فتح معابره الموسيقية ليترك الموسيقى-الذكرى تنفذ للكيانات المتعطشة لهدير ماء سعيد.
ودون شك، تمشت معزوفات «استذكار» التي من المنتظر أن تصدر قريبا في ألبوم موسيقي، علي دروب بزغت فيها شمس ذكريات حياة عابرة، كما لمعت فيها أضواء أخرى تلك التي تروي مصيرنا المشترك بما فيه من أمل وآلام.
وقد شدّتنا في هذا الصدد 3 معزوفات رسمت أوّلاها أزهارا على الركح وانبعثت منها أنغام توحي بالبهجة وبابتسامات الماضي المنشرح، ذلك الذي نعيش على أطلاله ونستلهم منه الكثير. أمّا ثاني هذه المعزوفات فقد جاءت على طرف نقيض من الأولى وحملت بين طياتها ألما نافذا وجرحا حيّا، واستحضر فيها ابراهم أحاسيس الحزن التي رافقت الأيّام الأولى من الثورة التونسية، وذلك من خلال عرض فيديو مصور من مستشفى القصرين يوم 11 جانفي 2011 عندما استقبل أجساد الضحايا الأولى التي استبسلت أمام عنف وقمع النظام السابق. وقد جاءت المعزوفة مثقلة بوجيعة تونسية خاصة.
ثم تلتها معزوفة ثالثة تدفقت مثل سيل أخاذ، مثل مسيرة عارمة، مثل بركان هائج. ومزج أنور ابراهم في هذه المقطوعة بين الأنغام الأوركسترالية وبين ذلك الوهج الشعبي المنتفض الذي تصدى واندفع وقاوم ليقول لا للاستبداد نعم للحرية، وهي معزوفة مميزة وقوية تدخل كما أسلفنا الذكر في نمط موسيقي يستحضر الذاكرة الجماعية تلك التي تصنع وقائعها الملاحم وترسم أحداثها دروب التاريخ.
وفي لفتة وفاء لواحدة من أشهر أغانيه التي أدّاها الفنان لطفي بوشناق، اختتم الموسيقار أنور ابراهم عرضه القرطاجني بأغنية "ريتك ما نعرف وين" التي تدخل هي أيضا في تيمة الذاكرة، فبين أزقة المدينة العتيقة، كثير من الذكريات ومن الصور التونسية المنحوتة في ذواتنا وفي هويتنا. وقد لاقى هذا الإختيار إستحسان الجمهور الذي بحث هو أيضا عن قطعة من ماضي أنور ابراهم الموسيقي الذي غذى ومازال يغذي النسيج الفني التونسي. فإكتملت الحلقة وطفت من الماضي أنغام موسيقية تجمع بين الذكرى والهوية.
في عرض "إستذكار"، إستحضر الفنان أنور ابراهم أوجها من ذاكرتنا الفردية والجماعية، إستحضرها بطابعه الموسيقي المميز ليروي بشفافية الماء وعذوبة اللحن الحياة بما فيها من حيوية وجمال وهزائم.
شيراز بن مرادا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق