الأربعاء، 20 نوفمبر 2013

«صفر فاصل» لتوفيق الجبالي: عندما تصمد اللغة في وجه الغلاة والغزاة


اللغة وما أدراك ما اللغة.. تلك التي رأى فيها محمود درويش وألبار كامو وطنا، ارتكز عليها توفيق الجبالي في مسرحية «صفر فاصل» ليذكرنا بتونسيتنا وبهويتنا المميّزة بما فيها من خاصيات.. من لوحة إلى أخرى يذكرنا الجبالي بمقالبه اللغوية وبتراكيبه الكلامية بالقواسم المشتركة التي تجمعنا وكأنّ اللغة هي السيف الذي اختاره ليحارب به من اختاروا غزو الأراضي التونسية بقواميس غريبة محاولين فرض نماذج بعيدة عن تونس وعن ألوانها وعن حريتها وعن وسطيتها…
في «صفر فاصل» وهو عنوان سياسي بامتياز، بما أنّه يتضمن إشارة واضحة إلى الخاسرين في انتخابات 23 أكتوبر، راوغ توفيق الجبالي السياسة والسياسيين، من يلهثون وراء الكراسي والمناصب.. راوغهم الى حدّ التساؤل لماذا نضيع وقتنا في الحديث عن الرئيس المؤقت وهو الذي انتزعت صلاحياته وأفرغت يداه؟ ويضيف الجبالي مستهزءا: «ما قيمة ناس لا يفرّقون بين الحوار والحمار؟»…
من غرفة أموات بأحد المستشفيات، يتعالى هراء 3 جثامين (توفيق الجبالي ورؤوف بن عمر ونوفل عزارة)، هراء أو بالأحرى كلام بعد الموت حول السياسة وما تعيشه تونس اليوم من تجاذبات.. ليزداد يقيننا بأنّ «الصفر فاصل» الحقيقيين ليسوا تلك الأقلية التي لم تحرز نسبا هامة في انتخابات 23 أكتوبر، بل هم من تحاذي أذهانهم مستوى الصفر الفكري، هم من يكرهون العلم والمعرفة والحضارة، هم من يعملون على غسل الأدمغة وقولبتها بهدف إفراغها من مضامينها الحية والثائرة.. «الصفر فاصل» هم من يتوددون للحالة الحيوانية، من يفقدون انسانيتهم ليصبح العنف وسيلتهم الوحيدة للتواصل مع الآخر.. «الصفر فاصل» هم آكلو اللحوم البشرية الذين فقدوا المشاعر الانسانية فراحوا كالقطيع يركضون وراء سراب الجهل والعنف والانغلاق على النفس… «الصفر فاصل» هم من يعادون الفن والحب والثقافة ويقدسون ثقافة القبور والموت ويحرضون عليها..
ومن اللوحات التي شدتنا في مسرحية «صفر فاصل» ذلك المشهد الذي يظهر فيه أحد من تقف أذهانهم عند لغة التحريم، فإذا به ممسك بجثة هامدة ويخاطبها قائلا: «حرام على الصبية ان تسقي الأزهار بعد الظهيرة»، و«حرام على المرأة أن تنظر الى ثياب زوجها عندما يكون غائبا عن البيت» وذلك قبل أن يستل شيئا من داخل الجثة المسجاة أمامه، ليتضح انه العلم التونسي، العلم الأحمر والأبيض بهلاله ونجمته اللذين يرمزان للهوية والشخصية التونسية..
كما شدّنا مشهد ثنائي واجه فيه الجبالي الأضداد: من يؤمنون بالكلمة الحرة وبالفن وبالحرية مقابل من لا يتقنون سوى لغة «الرصاص» همهم الوحيد إجهاض أحلام الآخرين، فيطلق «أهل الظلام» النار على كل من يتجرأ على التعبير والكلام الحرّ. هذا وتضمنت المسرحية عدة لمسات ذات رمزية فائقة ومنها اللوحة التي يظهر فيها الممثلون يحملون أرئدة طويلة وكأنهم أتوا لتفتيش الضمائر ومحاسبتها أو تلك اللوحة التي يظهر فيها رؤوف بن عمر في شخصية هاملت البطل الشكسبيري فيمد يده تجاه يد أحد الممثلين في إحالة للوحة الخلق الشهيرة للرسام ميكال أنجلو، أو تلك التي يظهر فيها الممثل صابر الوسلاتي في تحية للفنان الراحل محمد الأرناؤوط الذي شارك الجبالي وبن عمر في سلسلة «كلام الليل».
في «صفر فاصل»، تصمد اللغة التونسية والشخصية التونسية المنفتحة والوسطية في وجه الغزاة الظلاميين وغلاة الدين، تصمدان ضد ثقافة الجهل ولغة الموت التي يحاول البعض زرع بذورها في أرضنا.
يقول الجبالي إنّ الحلّ موجود وهو يكمن في زقزقة العصافير.. قد تكون عصافير الصبح أو عصافير المغرب بتغريداتها المؤنسة والجميلة التي تنسيك غباء وجهل بعض من دأبوا على تلقيب فئات من التونسيين «بالصفر فاصل».
شيراز بن مراد
تصوير كريم العامري
• تعرض مسرحية «صفر فاصل» الى غاية نهاية شهر ديسمبر بفضاء التياترو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق