لو لم تكن هذه الأجساد موجودة، هل كانت الثورة تتحقّق؟ من كان لِيحمل الكلمة، من كان يُطلقُ الصرخة؟ من كان لِيدفع الحواجز ويحتلّ السّاحات؟ أليست هذه الأجساد.. هذا البحر المتموّج من الأجساد التي تدفقت كالسيل على اليابسة في الشوارع لتقول كلمتها ولتعبر عما يختلج في أعماقها..
حول هذا الجسد الذي غزا الفضاء العام بعد عقود من الغياب والتغييب، تمحورت أطوار عرض «يا له من ربيع!» (بالفرنسية Sacré Printemps) لحفيز ضو وعائشة مبارك، والذي قُدم في اختتام تظاهرة «تونس عاصمة للرقص 2015» يوم السبت 2 على ركح المسرح البلدي بالعاصمة.
رؤية إستثنائية تلك التي ألقاها الثنائي حفيز وعائشة على «الربيع التونسي»، رؤية الفنان الذي يرصد الأحداث السياسية والاجتماعية بطريقة مختلفة عن سائر الناس فيترجمها ركحيا وجماليا مقدما قراءة تخاطب الروح وتسمو عن الصغائر والحسابات الضيقة.
يصدح في بداية العرض صوت إمرأة، صوت الفنانة سنيا مبارك منشدا الحرية والربيع قبل أن يفسح المجال لـ"بطل" العرض آلا وهو الجسد... تتسلل الأجساد المتحركة شيئا فشيئا بين الأجساد الجامدة، فتملأ الركح حياة.. شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، تتسرّب الحركة إلى الساحات ومعها ترتسم ملامح حياة جديدة، أجساد تهتف، تنادي، تطالب بالرحيل.. أجساد هائجة، مائجة، غاضبة، موجوعة، منفعلة في حراك أولي يقطع مع سنوات من الجمود..
يرسم حفيز ضو وعائشة مبارك في عرضهما الراقص «يا له من ربيع!» ملامح ربيع بشري هائل، إرتسامات انفجار جسدي مُدو، فوضى الحواس المتهافتة على الحياة، أطياف كتل بشرية تتنقل هنا وهناك كما لم تتنقل من قبل، تعابير جسمانية ثائرة في فضاء عام جديد.. معالم فضاء تونسي بمقومات مستحدثة فرضتها أحداث سياسية مستجدة..
يجري حفيز ضو وعائشة مبارك والفريق الراقص الذي يصاحبهما على الركح، يجري الجمع، يُحلّق الجمع، يرقص الجمع، يتمادى في الحراك الى حدّ الانهاك، الى حدّ الموت، فاليوم وقبل الغد يجب على الجسد أن يعبر، يجب على الجسد أن يلفظ ما بداخله من قمع ومن إقصاء ومن حرمان ليقول كلمته.. الكلمة التي انتزعت منه والتي سلبت من ذهنه وفمه.. مجموعات أو فرادى، رجالا أو نساء، عاقلين أو مجانين، آملين أو مقهورين، تحتل الاجساد «الفضاء الأكبر» لتكتشف حجمها الحقيقي وقدرتها على التمركز والتعبير..
كالسيل الذي لا يمكن أن يتوقف، كالمجنون الذي يكشف جنونه، كالموجوع الذي يقول وجعه، كالسعيد الذي يُشهر فرحه، كالسائل الذي يعدد مطالبه، كالثائر الذي يصرخ غضبه، تتناسل الحركات لتروي فصولا من حكاية «ربيعنا التونسي»، حكاية الجسد قبل أيّ شيء آخر، هذا العابر الهش والقوي في آن والذي لولاه لما كانت هناك ثورة..
لوحة بعد لوحة، يُنطِق الثنائي حفيز ضو وعائشة مبارك هذا الجسد ليروي الغضب والآمال، ثم الانتصارات الصغيرة وبعدها الخيبات وعودة الامل مجدّدا، كل ذلك عبر لغة الجسد وحدها وهو التحدي الذي توفّق الثنائي في رفعه بعيدا عن آلاف الكلمات التي قيلت وانسابت وهدرت حتى فقدت مدلولها..
أليس الجسد هو المحرك الأوّل، ذاك الذي تلقى أولى طلقات النار، ذاك الذي تحدى الأسلاك الشائكة، الذي تدفق واندفع في الساحات عندما كانت الكلمات ضبابية والأفكار متباينة.. آه، لو لم يكن هذا الجسد موجودا، حرّا ومندفعا، من كان لِيحمل الكلمة؟
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق