قدّم المناضل الحبيب بالغالي لموقع "الجمهورية" شهادة تاريخية حول الأحداث التي عرفتها مدينة طبلبة بتاريخ 23 جانفي 1952 عندما كانت تونس ترزح تحت الاستعمار.. وممّا أكد عليه محدثنا الدور الذي لعبته مجموعة من الوجوه القيادية في تحرير البلاد من براثن الاستعمار ومنها الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وفرحات حشاد وأحمد التليلي ولزهر الشرايطي وساسي وطاهر لسود معتبرا أنّ مجهودات هذه الشخصيات الوطنية كان لها أثر كبير في تحريك الشارع التونسي وفي صنع ملحمة استقلال البلاد.
وقال الحبيب بالغالي ـ وهو من مواليد 1927 ـ أنّه قضى عاما و7 أشهر في السجن (من 5 فيفري 1952 إلى غاية 23 جويلية 1953) بعد أن وجّه له القضاء الفرنسي تهم «التمرد» و«المشاركة في احتجاجات مسلحة» وذلك عقب تخطيطه ومشاركته في معركة طبلبة التي دارت أطوارها يوم 23 جانفي 1952.
وحول هذه الواقعة التي تشكل واحدة من أبرز الأحداث الدامية التي عرفتها جهة الساحل قبيل الاستقلال والتي اسفرت عن استشهاد 8 مناضلين ومقتل عدد من الجنود الفرنسيين (إذاعة لندن تحدثت عن 8 قتلى وبعض الأطراف عن 70 قتيلا لكن لا يمكن حصر عدد الضحايا بحكم التعتيم الذي فرضته فرنسا)، قال محدثنا إنه كان منخرطا في الشبيبة الدستورية في بداية الخمسينات وقد أمر الحزب بتجديد الهياكل فتم انتخابه كاتبا عاما وسنه آنذاك حوالي 24 سنة، بينما تمّ انتخاب عبد السلام شبيل (رحمه الله) رئيسا وعلية بالفقيه (مريض ربي يشفيه) امين مال وحسن عمار (رحمه الله) كاتبا عاما كذلك.
وأضاف محدثنا قائلا: «خدمنا خدمة كبيرة عام 1951 عندما تمّ تغيير المقيم العام إثر المفاوضات التي أجرتها الحكومة التونسية التي كان مشاركا فيها آنذاك صالح بن يوسف وكان يرأسها محمد شنيق الذي لعب دورا وطنيا هاما.. في تلك الفترة تمّ تعيين حكومة تفاوضية ووعدت فرنسا بالاستقلال الداخلي.. الحزب وافق لكن بورقيبة لم يعط الثقة الكاملة في فرنسا.. وقام حينها بجولة في الدول الصديقة والشقيقة ليبيّن لها الخلاف الذي كان قائما مع الفرنسيين وأنّ التونسيين طلاب حق لا غير».
هكذا خططنا لمعركة طبلبة
ويواصل حبيب بن الغالي شهادته على النحو التالي: «أنهى بورقيبة جولته يوم 2 جانفي 1952 وذهبنا لاستقباله في العوينة، ومن الغد توجهنا الى بيته الصغير الموجود في رحبة الغنم (معقل الزعيم) وكنا قرابة 15 شخصا.. وخلال هذا اللقاء قال لنا بورقيبة ما يلي: «في هذه الجولة، أزحت من امامكم الشوك والحجر واتصلت بالدول الشقيقة والصديقة التي أكدت أنّ موقفها موال لتونس، ولكن هذا لا يكفي! أنا أبعدت الشوك والحجر وأنتم يجب أن ترموا بأنفسكم أمام المتريوز والمدفع والاّ إلّي مشيتلهم الكلّ باش يقولو هذا «بُلف» متاع بورقيبة»..
اثر هذا اللقاء، عدنا الى مدينة طبلبة وقلنا إنّه يجب علينا أن نقوم بعملية نوعية في مدينتنا... فكرنا أن نضرب الجنود الفرنسيين بـ«المولوتوف» لكن عدلنا عن ذلك معتبرين أنّ هذه الوسيلة لن تعط أكلها... انتبهنا الى أنّ البحارة كانوا يصطادون السمك بالديناميت، فقلنا: «لم لا؟ توجهنا الى البحارة وطلبنا منهم كمية من الديناميت، وكنا آنذاك نسميه «العصبان».. قالوا: لا.. قلنا: لقد فشل المشروع»...
ويردف المناضل الحبيب بن الغالي قائلا: «أحنا هكا ويجينا بحار يقول لنا: أمدوني بالمال وسأوفر لكم ما تبغونه»... أعطينا المال ـ كنت أمين المال وكانت الأموال متوفرة ـ فأحضر لنا 25 كيلو متفرقعات... تساءلنا حينها أين سنضعها، فعائلاتنا كانت ترفض أن نبقي عليها في منازلنا.. توجهنا الى محمد المروّعي شهر «الحڨازي» فوافق على توفير «قراج» لصنع «الذخيرة».
العيايشة والزرنيّة على نفس الخط
ويضيف محدثنا مبتسما: «عندما علم جماعة البحر (ويقصد البحارة) بأنّنا تحصلنا على الذخيرة، وكان هناك خلاف بيننا نحن «العيايشة» وهم «الزرنيّة»، قالوا: نحن كذلك نريد أن نشارك معكم!! إثر ذلك طرح إشكال ثان يتمثل في مكان وضع «العصبان» يوم تنفيذ العملية، فقررنا أن نضعه فوق السطوح وعندما يمرّ الجنود الفرنسيون نضربهم ونختفي... كان علينا حينها التنسيق، فاخترنا مكانا ضيقا من المدينة وبالتحديد شارع بجهة «السفرة» لايمكن أن تمر منه سوى عربتين بالكاد.. وكانت التعليمات التي اعطيناها أن نكتفي باستهداف العسكريين الفرنسيين وبتفادي المدنيين منهم.. لم يكن لنا فنيون ولا شيء من قبيل ذلك (بعد معركة طبلبة سألنا فؤاد المبزع هل كان معنا فنيون وكيف حاصرناهم، فقلنا: «رانا شباب وحدنا»).
يومها كنا «قادمين على الموت»
وحول اختيار تاريخ «العملية»، يقول الحبيب بالغالي إنّه لم يتم تحديد تاريخ بعينه، بل إنّ الظروف هي التي حكمت، «بلغنا أنّ هناك حركية كبيرة في تونس وأنّ جنودا فرنسيين سيصلون الى المدينة لإلقاء القبض على الوطنيين، ولم يخطر على بالهم إنّنا استعددنا للقيام بعمليّة نوعية هي من أهم ما عرفه مسار الاستقلال من محطات ضاريّة.. أن تضرب الجيش الفرنسي المحتل وهو من أعظم الجيوش، وحتى المخبرين فشلوا ولم يتيقظوا إلى أنّ شبابا قرر الصعود على السطوح للقيام بهذه العملية.. شيوخنا قالوا «قوموا بهذه العملية خارج البلاد، لكنّنا لم نوافقهم.. نسقنا وحدنا .. ما جانا حدّ»... يومها كنا «قادمين على الموت».. بورقيبة كان بمثابة «الرسول» وكان لازمنا نطيعوه».
الفقر كان ضارب أطنابو والجهل متفشي
وهنا عرّج الحبيب بالغالي على نقطة هامة الا وهي الحالة التي كانت عليها البلاد آنذاك فقال: «البلاد كانت في حالة استعمار.. الفقر كان ضارب أطنابو.. كان مستولي على أراضينا وكانت التجارة بيد الفرنسيين واليهود... كان الجهل متفشي وكان القمل يجري... كان لهذه الظروف أشد الأثر علينا ـ وكنا نردد الأناشيد لشحذ العزائم وممّا كنا ننشده أن «الموت بشجاعة أفضل من المذلة»... ويؤكد الحبيب بالغالي أنّ الظروف القاسية اجتمعت مع الرغبة الجامحة في الاستقلال وهي التي دفعت بالعديد لكي ينخرطوا في هذه المعركة الوطنية..
يوم التحق الشهيد عامر بيوض بالمقاومين دون رجعة...
ويقول الحبيب بالغالي إنّ الواقعة كانت دامية، فقد حامت الطائرات العسكرية فوق المدينة وتولى المناضلون رمي الشاحنات العسكرية التي توغلت في شوارع طبلبة بالقذائف النارية «العصبان» فكان ما كان من مواجهات أسفرت عن مقتل عدد من الجنود الفرنسيين واستشهاد 8 من أبناء طبلبة. وفي هذا السياق استحضر الحبيب بالغالي حالة الشهيد عامر بيوض ابن عبد السلام بيوض قائلا إنّه كان يشتغل بالماكينة، ولما علم بما سيقع غادر شغله، حمل معه سلاحا والتحق بالمقاومين بلا رجعة (رحمه الله)..
آمنة ابراهم ومحبوبة سوسية من بين الشهداء
وبخصوص مشاركة النساء في معركة طبلبة، أفادنا الحبيب بالغالي أنّ النساء لم يشاركن مباشرة في التخطيط أو تنفيذ العملية، إنّما صعدن فوق السطوح لتشجيع المقاومين بالزغاريد وخرجت بعضهنّ إلى الشارع ومنهن الشهيدة آمنة براهم التي «افتكت» البندقية من يد أخيها واطلقت النار، فتلقت رصاصة قاتلة رصاصة أردتها شهيدة على عين المكان.. وتوقف الحبيب بالغالي على حالة أخرى وهي الشهيدة محبوبة سوسيّة التي أطلت من بيتها تزغرد وتشجع المقاومين عندما سمعت القنابل «هابطة» فتلقت هي الأخرى رصاصة قاتلة.. وقال الحبيب بالغالي لايمكن أن نسهو عن وضعية المرأة آنذاك فقد كنا في عام 52 ولا 2000!
مباشرة بعد أحداث طبلبة الدامية أي يوم 23 جانفي 1952 اجتاح 1500 جندي فرنسي المدينة ثمّ وصل عددهم الى 5 آلاف جندي وكانت مهمتهم تمشيط المدينة وترويع المواطنين وزوجات المناضلين بهدف القبض على مخططي العملية والمشاركين فيها وفي هذا الصدد قال الحبيب بن الغالي أنّه ظلّ أسبوعا كاملا يتنقل متخفيا من مكان الى مكان.
رسالة الى شيخ المدينة بدم المقاومين
وقال الحبيب بالغالي إنّ الأجواء المروعة التي عرفتها المدينة لم تثنه ـ مع عبد السلام شبيل ـ على كتابة رسالة بالدّم الى شيخ المدينة جاءت فيها الجملة التالية: «احذر المقاومة وراءكم».. وأضاف محدثنا أنّ أخاه الشاذلي بالغالي أعلمه أنّ مداخل المدينة مطوقة مما دفعه للهروب الى «الحنشية» حيث اختفى في داموس «كذال». ومنه عاد الى منزل والده حيث تمّ إلقاء القبض عليه.. وفي هذا الصدد قال الحبيب بالغالي إنّ الجادرمية قصدوا بيته واستفسروا والده فرج بالغالي عن مكان تواجده فما كان منه الا أن سلّم نفسه، فإمّا «نسلم والدي للتعذيب وإلاّ نسلم نفسي» هكذا حسم الحبيب بالغالي أمره..
«هزوني طول الى العذاب»
وبخصوص المصير الذي عرفه بعد إلقاء القبض عليه، قال لنا محدثنا بصوت خافت: «هزوني إلى العذاب.. إلى العذاب.. هزوني طول إلى العذاب باش نعترفلهم». وبيّن لنا انّه تمّ تحويله مع ثلة من المناضلين الى مركز الإيقاف بسوسة حيث قضى 17 يوما من أبشع ما عاشه في حياته... 17 يوما من البحث والتعذيب بجميع أنواعه قبل أن يتمّ نقله الى السجن المدني بتونس.. وقال بالغالي «عندما وصلنا الى السجن كأنّنا دخلنا الجنة بعد أن كنّا في جهنم»، فأعوان السجون كانوا تونسيين وعلى قدر من الطيبة.. وأضاف أن الإحساس الذي كان ينتابه في السجن هو ان لايلحق على الاستقلال ويعيش في تونس حرّة وذات سيادة.
دور الشهود والمحامي راؤول بن عطار
وهنا عرّج الحبيب بالغالي على الدور الذي لعبه محاميه اليهودي راؤول بن عطار والذي كان يحمل الجنسية الانقليزية حيث قال إنّه لولا الضغوطات التي مارسها لكانت العقوبة التي سلطلت عليه أكثر قساوة... كما أشار الى دور الشهود الذين «عملوا معاه المليح» حيث أكدوا أنّه كان موجودا بجهة «شيبة» يوم الحادثة وذلك لنفي تورطه في أحداث طبلبة، وترحم عليهم قائلا إنّه لن ينسى فضلهم مادام على قيد الحياة.
بورقيبة لم يُعط معركة طبلبة قيمتها
وفي خلاصة اللقاء، أفادنا محدثنا -بأسف- بأنّ بورقيبة لم يُعط معركة طبلبة قيمتها.. «بورقيبة قال إنّه جاب الاستقلال لتونس ولم يعترف بفضل المعارك التي دارت في عدد من المدن... ما يحبش حدّ يتفوق عليه.. لا طبلبة ولا غيرها». واعتبر الحبيب بالغالي أنّ بورقيبة -دون التشكيك في ما قدمه لتونس، فقد كان زعيما عظيما لكن لكل عظيم نقائص- ارتكب خطأين فادحين، أوّلهما عندما قرر الرئاسة مدى الحياة وثانيهما عندما اغتال المعارض صالح بن يوسف الذي قال إنّه كافح وناضل وكان منفيا مع بورقيبة في «سان نيكولا» وخدم الشعب اسوة ببقية المناضلين مضيفا أنّ وفاة صالح بن يوسف شكلت خسارة لتونس.
تعاليق الصور:
- صورة روضة الشهداء بطبلبة
-خارطة معركة طبلبة كما رسمها احد الشهود
- مقطع من جريدة لوفيقارو التي غطت الحدث
قائمة شهداء معركة طبلبة:
ـ محبوبة سوسية
ـ آمنة براهم
-عامر بن عبد السلام بيوض
-عثمان بن أحمد بالسويسية
-عمر بيوض
-محمد المستيري
-أحمد التركي
-شبيل بن محمد حسن نويرة
شيراز بن مراد