بعد خيبة العرضين الأولين اللذين لم تتوفّق فيهما إدارة أيّام قرطاج السينمائية في عرض شريط «مانموتش»، تمكّن أخيرا مرتادو المهرجان من اكتشاف مولود النوري بوزيد الجديد.. فما هي الرسالة التي أراد بوزيد ان يمرّرها، وماذا قصد بعبارة «مانموتش» التي فاحت منها رائحة التحدّي والاصرار الفنّي في ظلّ ما يتعرّض إليه الإبداع اليوم من تهديدات..
الفيلم لم يكن كما توقّعنا حيث فاجأنا بوزيد بتيمة أشمل تتعلّق بمحاولة البعض التحكّم في تونس، هذه المرأة الجميلة، كلّ من منظوره، إمّا بالسعي الى «تلحيفها» ووضعها عنوة على سكة التديّن، أو بإبعادها عن هويّتها العربيّة الاسلاميّة.. وبين هذه الرغبة وتلك يتعذّب الجسد التونسي ويتمزّق كيانه وتهتزّ روحه من فرط قوّة التجاذبات التي تسعى إلى ارضاء النظرة الخاصّة والضيقة، لا إلى اعلاء صوت الجميع في كنف الاحترام والتعايش السلمي..
ويروي «مانموتش» المعاناة التي تعيشها صديقتان (نور مزيو وسهير بن عمارة) في الأيّام الأولى من الثورة التونسية، ووضّح النوري بوزيد أنّ أحداث الفيلم تدور في الفترة الفاصلة بين سقوط نظام بن علي الى غاية أحداث القصبة2.. وقد شكّلت الأجواء السياسية المنفلتة والمشحونة آنذاك المسرح الذي تنقلت فيه بطلتي الفيلم زينب (نور مزيو) التائقة إلى الحرّية وإلى ممارسة مهنة تصميم الأزياء رغم محاولة أخيها الاسلامي ـ الخارج لتوّه من السجن ـ منعها من ذلك وسعي خطيبها إلى إلباسها الحجاب، وعائشة (سهير بن عمارة) الفتاة المحجبة التي تشتغل بأحد المطاعم لتلبية حاجات عائلتها والتي يحاول «عرفها» اقناعها بالتخلي على خمارها وإقامة علاقة جنسيّة معه..
وقد انطلق النوري بوزيد من معاناة هاتين الفتاتين لا لينقل قضايا المرأة فقط بل ما يهزّ جسد تونس اليوم من تناقضات وتجاذبات، كما حاول مخرج «ريح السد» و«مايكينغ أوف» ان يوازي بين جسد المرأة وجسد تونس الذي أصبح عرضة لكلّ أنواع التحرّشات.. فكيف لهذا الجسد (جسد المرأة أو جسد تونس) ان يقاوم ويصمد في وجه كل الرّياح السياسيّة والايديولوجيّة التي تعصف به؟
لقد أماط المخرج النوري بوزيد اللثام على الصّراع الذي حمي وطيسه في تونس مؤخّرا قبل ان يراه كثيرون، استطلعه بحسّ الفنان قبل ان تعيه البقيّة وهنا تكمن طلائعية المبدع الذي يستشعر نبضات مجتمعه ويستشرف ما هو قادم متجاوزا قصر نظر الآخرين..
ولأنّه إذا تعذب جسد تونس، تعذّب جسد أبنائها، استنجد النوري بوزيد بهذه الصورة ليجسّد حالة «الاحتضار» التّي تمرّ بها البلاد من خلال تصوير عمليّة تكفينه البطيئة إذ شاهدنا بالفعل مراحل من تغسيله بعد وفاته، وفاة الفنان الذي يهدي الجمال والحلم في بلد لا يولي الإبداع وحرية التعبير المكانة التي يستحقّها..
«مانموتش» خاطب بلغة سينمائيّة جميلة، الحيّ فينا ليدفعه إلى مقاومة الهرسلة التي تتعرّض إليها تونس من قبل أطراف تريد ان يكون البلد على مقاسها هي وحدها..
شيراز بن مراد