الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013

فيلم «على هذه الارض» لعبد الله يحيى: وجيعة الطفل، وجيعة القرية، ووجيعة الوطن


في صميم وجيعة فتى برئ، في صميم وجيعة قرية تونسية منسيّة، في صميم وجيعة شيوخ وهنوا بفعل التهميش.. في صميم هذه الوجيعة المتعددة الملامح، وفي أجواء قرية العمران المتفرّعة عن مدينة المكناسي من ولاية سيدي بوزيد، أوغلنا المخرج الشاب عبد الله يحيى من خلال شريطه الوثائقي «على هذه الارض» والذي توّج يوم السبت 28 سبتمبر 2013 بالجائزة الكبرى لمهرجان فيلم حقوق الانسان نظرا إلى لغته السينمائية السلسة وشاعريته المرهفة مثلما جاء على لسان عضو لجنة التحكيم الناقد السينمائي ناصر الصردي..
فعلى وقع قرع طبل حديدي، تقترب كاميرا المخرج عبد الله يحيى من مجموعة من الأشخاص تجمهروا لقطع الطريق المؤدية إلى قرية العمران احتجاجا على احتجاز عدد من أبنائهم في السجن بعد أن طالبوا بحقّهم في التشغيل وفي التنمية الجهوية وفي العدالة الاجتماعية.. تتوقف الكاميرا عند وجه الطفل حمزة الحيدوري الذي يدعو من خلال اللافتة التي يحملها بين يديه إلى إطلاق سراح والده الذي طالب بتوفير شغل قار تقتات منه عائلته الصغيرة.. ومن عيني حمزة الكستنائيتين الشفافتين يدرك المتفرج حجم الرسائل المتضمنة في الفيلم والتي تراوح بين الحلم والخيبة وبين العزم والاحباط بعد أن أدارت السياسة وجهها عن واقع الوطن..
شيئا فشيئا يستدرجنا المخرج الى عمق وجيعة قرية العمران، هذه الارض المعزولة التي بعثت في بداية الستينات في إطار التعاضد الذي أراد احمد بن صالح ارساءه، ومن خلال شهادات أهالي القرية نكتشف حجم معاناة المتساكنين الذين يفتقرون الى أبسط مقومات العيش الكريم، ولعل اللافت للنظر في خطابهم هو شهامتهم كمواطنين تونسيين تنكّر لهم الوطن وتناستهم السياسة وهمشتهم الجغرافيا، وحول هذه النقطة بالذات سعت كاميرا عبد الله يحيى ومدير تصويره مهدي بوهلال الى تكبير الصورة لتبرز جفاء الطبيعة والمناخ، جفاء لم يسهّل حياة المتساكنين بل جعلهم ينفرون من الاحجار المتكلسة ومن نبتة الحلفاء التي غطت الاراضي الشاسعة في حين أن هذه الربوع يمكن ان تدرّ خيرات بلا حساب لو توفرت الارادة ونصيب من الامكانات..
ومن أبرز نقاط قوة فيلم «على هذه الارض»، قدرة المخرج على الاقتراب من ذلك النسغ الحيّ لقرية العمران، فوراء الوجوه معاناة وفي القلوب خيبات وفي الصدور وجيعة الذات والوطن وفي الطبيعة خلاء محبط..  وتتوالى الشهادات، شهادات الآباء الذين دخلوا في إضراب جوع للمطالبة باطلاق سراح أبنائهم، الشهادات الصامتة كما الشهادات الشفوية تفصح الكثير عن هذا الوطن الذي تناسى أبناءه ومنها «طلبنا مع من نتحاور فلم نجد سوى الدز والفز»، و«حاكمنا ما تفقدناش منذ ذلك الزمن»، و«ما عندي كان حرية التعبير وكان صهيوني يوفر لابنائي الشغل نخدم معاه»، و«العمران مهانة» و«اعمل الخير في شعبك» و«هكذا كافأتنا تونس كرتوش وكريموجان» و«شكون ضرب ولدي؟ ضربو تونسي» و«كلنا في حالة سراح مؤقت» و«لا عربي لا مسلم لا متدين، ما فمة إلا شخص يخدم وطنو» الى غير ذلك من الشهادات التي تعلن الاستعداد للتخلي عن جنسية وطن تنكر لابنائه..
وبلمسات الفنان الساحرة، يمرّ بنا المخرج عبد الله يحيى عبر عدد من المشاهد من «سماء النجوم» الى «سماء الحلم» بعد أن يلتقي الطفل حمزة الحيدوري جدّه في ظلام العمران وتحت جذوع شجرة عملاقة تحمي حديثهما من برد الليل ووحشته.. يسأل حمزة: «لماذا أدرس يا جدي اذا كانت الشهائد لا تضمن الشغل؟» فيجيب الجدّ «أُدرس لكي لا تيأس يا بنيّ».. ينتهي الكلام الذي يلملم الجراح لتحلّ «سماء الحلم» محلّ «سماء النجوم» في حيلة بصريّة تظهر فيها رسوم تجسد أحلام حمزة الطفولية وبراءة الفتى الذي يريد ان يصبح رائد فضاء أو طبيبا جراحا..
وفي الشريط كذلك مشاهد حبلى بالمعاني اختزلت حجم الهوة السحيقة بين الخطاب السياسي الاجوف واللغة الخشبية ووعود رجال السياسة من جهة، وواقع الجهات التي تعاني من التهميش من جهة اخرى، ومن بين هذه المشاهد تلك اللوحة التي يظهر فيها مسنّان يجلسان فوق حصير بيتهما وصوت المذياع يقول إن رئاسة الجمهورية نظمت ندوة بمشاركة خبراء أجانب للنظر في السبل الكفيلة بمكافحة الفقر وإن النتائج ستظهر بعد سنوات.. بمشاهده هذه، أبرز عبد الله يحيى حجم القطيعة الحاصلة بين المركز والجهات وحجم غياب الارادة السياسية في تحسين الواقع المعيش ولو بإجراءات استعجالية بسيطة تنفض الغبار الذي تكدّس منذ سنين في القلوب وفي الشوارع وفي المؤسسات.. ألم يعبّر الطفل حمزة الحيدوري عن حلم بسيط في آخر الشريط يتمثل في ادخال خط هاتفي إلى مستشفى الجهة؟
«على هذه الارض» فيلم اقتفى أثر وجيعة طفل حُرم من والده، ووجيعة قرية مهمّشة ووطن تنكّر لابنائه، وقد مارس عبد الله يحيى في شريطه السينما بوصفها فعلا مقاوما كشف من خلاله واقع بلد «في حالة عطب» عبر نقل معاناة سكان احدى قراه، وذلك بلغة «القلب» الذي ينشد كرامة الانسان ولا شيء غير ذلك.
شيراز بن مراد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق