وراء أسوار المدينة العالية، يعيش “محسن باستاردو” و”لرنوبة” و”خضراء” و”بنت السنقرة”.. مدينة يؤمها ناس ضعاف الحال، فيها الطيبون والأشرار وفيها العاهرات واللصوص… مدينة كأسماء متساكنيها غريبة الأطوار، مدينة تنتظر الخلاص والانعتاق، مدينة صادق ابناؤها الحشرات وجرى أطفالها حفاة الأقدم في ساحاتها العامة.. مدينة في حالة انتظار، كحال البلاد التونسية أيام النظام السابق..
في هذا الفضاء المغلق، صوّر المخرج نجيب بلقاضي فيلمه الروائي الطويل الأوّل «باستاردو» عن سيناريو كتب سنة 2007 وتطرّق بصفة واضحة الى العلاقة الزبائنية التي كانت تصل السلطة بمواطنيها: حيتان كبيرة تنهش اسماكا ضعيفة وفق المقولة الشعبية الدارجة: «حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت»، كلاب جشعة أطلقت لتمتص دماء الشعب، وقردة قبلت بأن تركبها قردة أخرى لتحقيق مآربها وطموحاتها السياسية أو المالية. وقد صرح نجيب بلقاضي خلال اللّقاء الصحفي الذي تلا العرض الأوّل للفيلم، أنّه سعى لإبراز الجانب الحيواني الكامن في داخلنا وذلك من خلال موازاة مشهدية بين الحيوان والإنسان الذي يقبل بالتخلي عن مبادئه من أجل المنصب والمال…
وفي هذا السياق، بدا لنا أنّ نجيب بلقاضي شبّه في فيلمه، البلد بحظيرة الحيوانات، «حيوانات انسانية» تتهافت على الجاه والسلطة والمال على حساب الآخرين وخاصة ضعفاء الحال منهم… وقد دخلت سلوكيات أبطاله في خانة «الآدميين المتوحشين» الذين توقفهم أسوار الحظيرة لكن لا يوقفهم جنونهم في محاولة البروز على حساب المستضعف والفقير.
لنعد الى قصة الفيلم وأبطاله «السرياليين» سريالية عرابي النظام السابق حيث يروي «باستاردو» قصة محسن ذاك الشاب اللقيط الذي طرد من الشركة التركية التي كان يعمل بها بعد إقدام إحدى العاملات على سرقة كمية من الأحذية.. تطول مدة البطالة بمحسن الى أن تقترح عليه إحدى شركات الاتصالات كراء سطح منزله مقابل ألفي دينار شهريا بهدف وضع لاقط هوائي، وهكذا تتغير حياة محسن وحياة أهل المدينة بعد وصول «الريزو» و«الهواتف الجوّالة»، ويحتفي الأهالي «بالحقّ في التكلم» كمن يحتفي بتحرره من قيود الصمت والعزلة…
مع هذا الحدث الهام، تنطلق الألسن المعقولة وتنطلق معها الأطماع الجديدة، أطماع من يريدون تقاسم الكعكة، تماما كجشع المتنفذين القدامى الذين كانوا يريدون نسبة من الرأسمال أو جزءا من الأرباح مع كل مستثمر خاص يسعى الى الانتصاب… فكيف لمحسن الشاب اللقيط أن يصبح «ثريا» وكيف له أن يستفرد بالغنيمة؟ من هذا الباب، يدخل نجيب بلقاضي في تيمة الصراع من أجل السلطة، حيث يفتح مشروع الهواتف الجوالة باب السباق أمام تهافت الخصوم: القتل والتآمر والنفاق والخداع كلّها وسائل متاحة ومباحة لتحقيق المنشود..
وتجدر الإشارة إلى أنّ فيلم «باستادرو» الذي تولى انتاجه عماد مرزوق يرتكز على تميّز شخصيات أبطاله ومنهم خضراء (لسعد بن عبد الله) في دور الأم «الكبرانة» بوشمها الأخضر وشعرها الكثيف وعينها العوراء، ولرنوبة (الشاذلي العرفاوي) بجثته المفزعة وخوائه الداخلي، وبنت السنقرة (لبنى نعمان) التي لمعت ببدائية الكائن الخارج لتوّه من الكهف، وتوفيق البحري التي تقمص دور التاكسيست، وسندس بلحسن في دور صاحبة الماخور، دون أن ننسى طبعا البطل عبد المنعم شويات الذي سكنه هدوء البحار رغم وجوده في قلب العاصفة.
وقد اختار نجيب بلقاضي أن يكون بطله باستاردو (عبد المنعم شويات) لقيطا لا يعرف لا أمّه ولا أباه.. لا يعرف جذوره ولا ماضيه في تماه واضح مع واقع المجتمع التونسي الذي فُسخت صفحات عديدة من تاريخه وأضحى بحكم ضغوط السياسة وأطماعها مُنبتا عن جذوره وتاريخه، فيسقط البطل في فخ اللاتاريخ ويستبطن القيّم المتوفرة في مجتمعه: الانتهازية والجشع واستغلال الآخر ويعيد تسليطها على من هم أضعف منه.. يدعونا بلقاضي بطريقة غير مباشرة إلى أن ننظر إلى ماضينا بانتصاراته وبخيباته حتى «نستخلص» العبر.. فلا غرابة في مجتمع يفرز الاستعباد من جديد مادام يعاني من عزلة التاريخ ومن تهميش الحاضر.
«هناك شيء ما عفن في الوطن» هذا ما قاله المخرج نجيب بلقاضي في فيلم «باستاردو»، أسوة بالمقولة الشهيرة للروائي البريطاني شكسبير الذي قال في نص هاملت: «هناك شيء ما عفن في مملكة الدانمارك».. فطوال الفيلم يكشف بلقاضي أوجها من العفن الذي نخر البلاد، عفن السلطة، وعفن التقاتل من أجل السلطة والجاه، والعفن الذي يفرزه الجهل والفقر والتهميش… ومن المشاهد المحورية في الفيلم التي تُبين حالة التعفن التي أصابت الجسد تلك اللقطة التي يخرج فيها الدود من منخر خروف بمحل لبيع اللحوم. وقد إتخذ بلقاضي من موضوع كشف المتعفن في مجتمعنا التيمة الاساسية لفيلمه الذي جاء سوداويا ونابضا بالحياة في نفس الوقت.
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق