امرأة متدفقة كنهر فياض، كشلال مُنساب، كسيل جارف، هكذا كانت ليلى طوبال في مسرحية «سلوان» التي قدمت عرضها الأوّل يوم السبت 17 جانفي 2015 بفضاء التياترو بالعاصمة. طيلة الساعة والنصف من الزمن، أزهرت ليلى طوبال بحديث متشابك عن الوطن والسياسة والحب والصمود، حديث طبع بعطر السلوان، وفاح بعبق حب تونس وبوجيعة ناسها. مزيج من الحب والوجيعة ذلك هو الخيط الرّفيع الذي خاطت به ليلى طوبال عملها المسرحي الجديد «سلوان».
تتصارع الذاكرة في ذهن صاحبة «سلوان» بين ذاكرة مُعطبة وأخرى مُلتهبة. واحدة تنشد السلوان والنسيان لما فيها من هموم وخيبات، وأخرى ملتهبة ترفض التجاهل والنسيان. فلئن عرفت تونس في السنوات الأخيرة أحداثا عصيبة وأياما سوداء، فقد شهدت أيضا حراكا مجتمعيا نادرا نادى بالحقوق وبالحريات وبنبذ العنف، قد تكون تونس نجت بفضله من السقوط في منعطفات الفوضى والإرهاب.
تظهر ليلى طوبال على الركح مرتدية فستان زفاف. عروس شامخة في زمن ساقط، عروس تنشد الحب والحلم والصمود، عروس تقاوم وتناضل وتنزل إلى الساحات قبل أن تُصاب «بسكتة وطنية»، فعشق الوطن المغدور يسري في هذا الجسد ـ الجذع الذي رمى بعروقه في عمق الأرض التونسية.
تفتح ليلى طوبال كتاب ذاكرة السنوات الأربع الأخيرة، فتتلاطم الأفكار والأحاسيس المختلفة لكن تطفو على السطح بصفة خاصة صور حمراء، صور تراجيدية من اغتيال بلعيد والبراهمي وغيرهما من شهداء الوطن من جنود وأعوان أمن. تتنقل ليلى طوبال بين "صندوق الذاكرة" و"ميكروفون الكلمة" ناثرة هنا وهناك وردا أحمر ولسان حالها يقول إنّ دم المغدورين سيوّرق يوما وردا أحمر يانعا، ورد سيغطي هذه الأرض الطيبة مهما بغى الباغون وهدّد الإرهابيون.
وبلغة التحدي، تنزع ليلى طوبال ثوب العروس الشامخة، لتظهر في ثوب المرأة الغانية. ينبثق حينها فجر أحمر من فستانها المخملي، وتقول بكلّ ما فيها من نسوية مزلزلة: «انا المرا.. أنا الحرّة.. أنا الغولة.. أنا العاهرة... أنا شوكة في حلق إلي يحبوني في تركينة... أنا المرا إلي مُخبية الوطن ما بين القلب والجواجي». خطاب فيه أكثر من رسالة للذين حاولوا طمس حضور المرأة التونسية في الفضاء العام، لأولئك الذين أرادوا لها أن تكون في أسفل الدرك، مجرّد مُكملّة في واقع تونسي سار منذ القدم ضدّ التيار الذي قزّم المرأة وبتر فضاءات تحرّكها.
ومن فصل المرأة، تتحوّل ليلى طوبال إلى السياسة ولحكامها مُوجّهة أصابع الإتهام الى الترويكا ومعبرة عن موقفها الرافض لسياساتها ولتسامحها مع العنف والإرهاب. فهذا الفصل ادمى الوطن وفتح الأبواب للسحل والذبح ولنشاط الجمعيات «الخيرو-إرهابية» سامحا لها بأنّ ترتع في البلاد. تشرب ليلى الموجوعة جرعات من ماء السلوان ثمّ تلتفت الى الجمهور وتقول: «لو نزل بيننا فرويد، لتعقد من كثرة عقدنا»، فالسياسة ليست وحدها مريضة في تونس، المجتمع أيضا يعاني من أمراض متعددة إختزلتها طوبال في مشاهد أبرزت حجم المكبوت وضغط المواضعات الاجتماعية والدينية التي تقيّد حرّيتنا ومشاعرنا ومواقفنا. وفي دفعة أمل أخيرة، تقف ليلى طوبال أمام مصدحها لتنادي بالحلم. «احلموا... احلموا يا ديني...» تصدح العروس حتى تتواصل مسيرة تونس الحرّة وحتى يكف الرصاص وقمع الفكر الحرّ في أرض السيكلمان والياسمين.
وقد ذكّرنا مونودرام «سلوان» الذي أفرد الشهيد شكري بلعيد مقطعا مؤثرا بـ«كتاب السلوان» الذي أصدره سليم دولة سنة 2008 وأهداه الى أخيه سامي الأزهر دولة ذلك الذي «رحل ذات يوم خبز وطني برصاص وطني» خلال أحداث الخبز سنة 1984. قاسم مشترك بين العملين أحدهما مسرحي والآخر أدبي، قاسم يُذكرنا بالقدر التراجيدي الذي يترصد أحرار البلاد وبضرورة أن «لا يفعلها أبناء الوطن بأبناء الوطن، مرّة أخرى» كما يكتب سليم دولة.
تخفق ليلى طوبال في «سلوان» كطائر الخطاف الهش والصامد في نفس الوقت، فتحكي -لأنّ الذاكرة بحاجة الى من يحكيها- فصولا من ربيع تونسي موجوع، ربيع منكوس ولكنه ربيع صامد بنسائه ورجاله الأحرار... فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة.
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق