السبت، 28 نوفمبر 2015

في مسرحية "طبّة" لرجاء بن عمار ومنصف الصايم وشكيب الرمضاني: رصد لأصداء وقائع من التربة الأولى

على «طبّة» أرض من زمن آخر، تعالت أصوات زوج من الفلاحين وطواحني المكان مسائلة صدى الانسان والمكان... أصوات مُرتجلة من عالم البدايات والنهايات، عالم الإنسان الذي يستكشف ذاته والآخرين..
من قلب «الطبّة»، وهي فضاء خارجي لقاعة سيني مدار بقرطاج سخره الثلاثي المسرحي رجاء بن عمار ومنصف الصايم وشكيب رمضاني لتقديم عملهم الجديد «طبّة»، اندفعت الكلمات الأولى تلك التي تحاول فهم مغزى الكون بأشيائه الصغيرة والكبيرة... فما هو سرّ النجوم، وما هو محرّك عواطف البشر؟ ما الذي يدفع الانسان نحو المعرفة ونحو الآفاق الأرحب؟ كيف تتجسد علاقته مع الدين والروحانيات؟ كيف يتعامل مع جسده ورغباته؟ لماذا ينزع الى الشر؟ كيف يتعامل مع الفكر الدغمائي؟
وهي كلّها تيمات تطرقت لها مسرحية «طبّة» بسلاسة من خلال قصة زوج من الفلاحين (منصف الصايم ورجاء بن عمار) وطواحني (شكيب رمضاني). يطلب الزوج من زوجته أن تحمل رزم القمح الى الطاحونة حتى يتم رحيها، ترفض الزوجة الانصياع بحكم السمعة السيئة للطواحني، لكنّها تذهب اليه في الأخير مضطرة، فتكتشف حقيقة هذا الرجل الذي يدّعي التدين والمعرفة.
ومن خلال بدائية الشخصيات الثلاث ومحيطهم الريفي البسيط والساذج، تعود بنا مسرحية «طبّة» الى الأساطير القديمة محاولة فهم ما نعيشه اليوم من تقلبات على ضوء «التربة الأولى»، تلك التي زُرعت فيها بذرات الفكر المحنط وكذلك حبّات التحرر والانعتاق، كما نمت فيها زرّيعة الخمول والخوف من الآخر.. وهي مفاهيم جسدتها الشخصيات الثلاث لترسم مجرى وديان الأفكار الأولى ومسار التيارات التي مازلنا نسبح فيها الى غاية يومنا هذا...
ولعلّ اللافت في مسرحية «طبّة» هو توظيبها الركحي الذي انفتح على فضاء خارجي (حديقة خلفية)، والذي انقسم فيه الفضاء المسرحي لا بين ركح كلاسيكي ومتفرجين بل بين قطعة أرض منحدرة وصفوف من الكراسي... وهكذا يوغل المتفرج في «عالم فلاحي صغير» ليتابع حيثياته عن قرب: أنفاسه، أوجاعه، تقلباته وهذا الصدى الساذج-الثائر الذي يفور من «الطبّة» والذي يجعلك تتماهى مع شخصياتها بكل ما فيها من بدائية عنيفة.
ودون منازع، استوقفنا في مسرحية «طبّة» أداء القديرة رجاء بن عمار التي كانت بمثابة الأرض البكر الندية، بين طياتها السذاجة والثورة في نفس الوقت، فها هي مطيعة تارة، متمردة تارة أخرى، وكأنّها تداوم على حرث أرض وجودها رغم ضراوة المعيقات، تعثرت أقدامها بأوحال الحياة لكنها مصرّة على مواصلة المشوار بأسئلتها الحارقة... هكذا بدت لنا رجاء بن عمار في «طبّة»، بسيطة وثائرة في شخصيتها، رائعة في أدائها...
في «طبّة»، استكشف الثلاثي بن عمار والصايم والرمضاني صدى وقائع التربة الأم تلك التي أودعت فيها الأفكار البدائية الأولى والتي مازلنا إلى يومنا هذا نتجادل ونتساجل حولها لأنّنا عجزنا -رغم انعتاق بعضنا- على تجاوزها للتحليق في فضاءات أرحب..
من أرحام الطبّة وُلدنا وإلى مغاور الطبّة نعود.
شيراز بن مراد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق