إذا زهيت، يهدو عليك الرهوط...
كطوير الليل
جيل وراء جيل
هارب من الويل
كلابهم متخمرة
علاش ناوين؟
تونس... صيف 2010... فرح (بيّة المظفر) فتاة في العشرين من عمرها تنجح في امتحان الباكالوريا بإمتياز... تدفعها أمها (غالية بن علي) الى الالتحاق بكلية الطب، غير انّ لفرح مشاريع وأحلاما أخرى مع فرقة الموسيقى الملتزمة التي تنشط فيها... تتدرج الأحداث الى أن يُلقي البوليس القبض على فرح بسبب المضامين الثورية للأغاني التي تقدمها ويتم تعذيبها لعلها ترضخ وتتخلى عن الفن ومن خلاله عن حرية التعبير..
ومن خلال قصة هذه الفتاة التي ترمز للشباب التونسي الحالم والثائر، ترسم المخرجة ليلى بوزيد ملامح بلد حاصر أبناءه وضيّق الخناق على حريتهم. بلد سلب شبابه أبسط أشيائه، وهو البسمة التي تشير الى عنفوانه وحيويته. فشتان ما بين فرح الشابة المقبلة على الحياة والمتحدية لنمطية المجتمع وبين فرح التي طالتها يد البوليس السياسي قامعة حريتها ولاجمة فنها! أليس هذا البلد، بنظامه السياسي المنغلق، "ماكينة" لتحطيم المعنويات ولوأد أحلام الشباب؟
مشهدا بعد مشهد، تفكك السينمائية ليلى بوزيد الآلة التي استخدمها النظام السابق ضد المثقفين والفنانين والمعارضين السياسيين بدءا بالضغط للإنخراط في الحزب، مرورا بالتهديد ثم المحاصرة والهرسلة ومنها الى الخطف والايقاف ثم التعذيب البسيكولوجي والجسدي الى غاية التحطيم الكلي للمعنويات والارادة، وأما الحلقة الأخيرة فهي الاغتيال. وهي ممارسات التجأ اليها نظام بن علي ضد اليساريين والاسلاميين، كما طبقها نظام بورقيبة مع اليوسفيين ومجموعة "برسبكتيف" اليسارية بنسائها ورجالها وغيرهم من المعارضين.
لكن فيلم "على حلّة عيني" لم يتوقف عند حد تفكيك وفضح ممارسات المنظومة السياسية السابقة، وعلى تصوير الأجواء الخانقة التي كان يعيش على وقعها البلد، بل تجاوز ذلك ليحلق في صميم النفس التونسي المخصوص، ذاك الذي يعشق الحرية ولا يعترف بالعقد، ذاك الذي يقدس طيب العيش وحب الحياة.
بين أضواء المدينة المتوارية ودفء أجساد ناسها، تنقلت كاميرا ليلى بوزيد بشاعرية مقتفية أثر "انسانية مّا" بلا رتوش وبلا صنصرة، كذاك المشهد الذي تغني فيه فرح بإحدى حانات العاصمة مانحة موجات من السعادة الى جليسها (فتحي العكاري)، أو ذاك المشهد الذي استلقت فيه مع صديقها برهان (منتصر العياري).
وسط حضور جماهيري غفير، قدمت المخرجة ليلى بوزيد العرض الاول لفيلمها الروائي الطويل "على حلّة عيني" من انتاج شركة بروباغندا، بقاعة الكوليزي بالعاصمة وذلك في إطار المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية في دورتها الـ26.
وكما صوّرت ليلى بوزيد هذه "الانسانية الحرّة"، صوّرت أيضا نقيضها الموجع بما فيه من احساس بالإختناق ومن خيبات وانتهاك للحرمة الجسدية. ففي تونس، كما في كل بلد يعيش تحت حكم مستبد، تُقمع كل "حلّة عين" منذ وهلتها الأولى حتى تُجهض الأفكار والأحلام الثائرة في مهدها. دون رجعة.
وفي هذا السياق، يُثير الفيلم موضوع ضعف ذاكرتنا الجماعية بما فيها من انتهاكات واعتداءات طالت المثقفين والسياسيين الذين رفضوا الانصياع لتعليمات النظام وامتنعوا عن التماهي مع عقلية القطيع، وكذلك ملف تعذيب النساء من سجينات رأي أو رفيقات درب في العقود الماضية، وهو ملف بحاجة الى عملية نفض غبار حتى لا ننسى الممارسات الوحشية التي تعرضت لها تونسيات عديدات.
بقي أن نشير الى جانب أكثر من مهم في فيلم "على حلّة عيني"، وهو عامل الموسيقى الذي أمنّه الموسيقي خيام العلمي، فقد طبع الشريط بروح شبابية ثائرة ومميزة. ومن خلال الكلمة واللحن، تدفق المضمون والدلالات التي تروي فصولا من حكاية تونسية مزجت بين الدمعة والإبتسامة، بين الحلم والوجيعة، بين الخيبة والأمل، بين الحرية والحرمان.
في فيلم "على حلّة عيني"، سلب "السيستام" السياسي التونسي البسمة من شفتي "فرح" تلك الفتاة اليافعة الحالمة، كما سلب الحلم والأمل من مئات الشبان التونسيين الذين آثروا مغادرة البلد أو الانتحار بعد أن تنكر الساسة لأبسط الرغبات في العيش بحرية ودون قيود جائرة.
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق