هنا، رائحة العنف لا تُطاق.. ولكنها رائحة وجب علينا التوقف عندها لتقصي معاني العنف ولتحليل دوافعه وأبعاده، فأن تقتل امرأة زوجها، أن يذبح واحد منا صديقه من الوريد الى الوريد، أن ترمي أم بابنها بين ألسنة النيران، أن تلقي مجموعة من التلاميذ بأستاذتهم من الطابق الأول متسببة في وفاتها، كلّها جرائم نعيش على وقعها يوميا وتتطلب منا التساؤل حول الوحوش الكامنة فينا وكيف تتحرر هذه الوحوش من قيودها لتطلق عنان السوء المتخفي في دواخلنا.
حول هذه التيمة التي تنازعت فيها قيم الإنسان مع قيم التوحش، قدّم الثنائي الفاضل الجعايبي وجليلة بكار بمشاركة عدد من الممثلين (فاطمة بن سعيدان وجليلة بكار ولبنى مليكة ونعمان حمدة وأيمن الماجري ونسرين المولهي وأحمد طه حمروني ومعين مومني) عملا مسرحيا أوغل في عالم الجريمة بكل ما فيه من عنف وقساوة وحدّة قبل أن يطلّ برأسه، كمثل من ينجو من تراجيديا إنسانية، طارحا أسئلة تتعلق بدوافع القتل لدى الإنسان وحاثا الحضور على التفكير في فكرة «الامتناع» مثلما وردت في فكر الكاتب ألبار كامو «l'homme qui s'empêche» أو الرجل الذي يمتنع عن إبراز الوحش الذي يسكنه.
وهي تيمة تسلك نفس المنهاج الذي توخاه الثنائي الفاضل الجعايبي وجليلة بكار في مسرحيتهما الأخيرتين: "يحي يعيش" التي تطرقت للحيوان أو الوحش السياسي الذي يقمع ويستبد متجاهلا صفارات النقد والتحذير ثم "تسونامي" التي حذرت من توحش الفكر الديني المتطرف الذي لا يعترف لا بالحرية ولا بالفن، ولا بالحقوق. ألم يقل الفاضل الجعايبي مؤخرا: "مسرح ثم مسرح حتى يمتنع الإنسان عن طغيان حيوانيته".
في هذا السياق، جاءت الاجابة بمسرحية عنيفة على عدّة مستويات، أوّلها المستوى اللغوي الذي جاء مكثفا بقاموس الجريمة من ذبح ونحر وبقر وخنق وحرق بما يدفع بالمتفرج بين ثنايا هذا العالم على حدّته... وثانيها على مستوى السينوغرافيا التي ضاق فيها الركح بديكور "رمادي- حديدي" لا يترك متنفسا ولا أفقا غير أفق الجريمة.. وحتى الموسيقى «المباشرة» التي رافقت المسرحية والتي أمّنها قيس رستم، فقد جاءت نوتاتها منغلقة على نفسها، درامية في بعدها وكاسحة في تموجاتها.
وقد تكون طاقة مسرحية «عنف» على الازعاج والدفع بالمتفرج الى حافة هاوية السكون والتوازن هي نقطة قوتها الأبرز، ففي «عنف» لا مجال لنصف الكلمات ولنصف المواقف، فالركح قاتم والأجساد ثائرة والفم حاد لا يخشى قول «العنف»، فهو من صلب واقعنا اليومي، قد نرفض مشاهدته، وقد نرفض مجرد التعليق عليه، لكنه قائم الذات في شوارعنا وفي بيوتنا ولا مجال للفرار منه.
هكذا تتساقط الكلمات في مسرحية الجعايبي الجديدة كالسكاكين قاطعة لحم توحشنا وناهشة عظام الحيوان المتستر فينا الى حدّ قد يصعب للبعض تقبله، وقد يدفع بالبعض الآخر لمغادرة قاعة العرض، لكنه حدّ فني بامتياز تغيب عنه المجاملة والتنميق، تسقط فيه الأقنعة وتتعرى من خلاله حقيقة المتوحش فينا. كل ذلك من أجل أن ندقق في قتامة دواخلنا، أن نسائل أنفسنا وأن نسعى الى اعمال العقل، هذا الذي تركناه بلا فكر ولا ثقافة، حتى لا نغدو رهينة الحيواني فينا.
رائحة العنف وإن كانت لا تطاق، وجب علينا أن نفككها وأن نفهم دوافعها حتى نُشفى منها. ولو جزئيا.
-تتواصل عروض مسرحية «عنف» بقاعة الفن الرابع أيام الجمعة 13 والسبت 14 والأحد 15 نوفمبر
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق