الأربعاء، 21 أكتوبر 2015

في عمله المسرحي الجديد: توفيق الجبالي يسحب البساط من تحت أقدام تابعة الجهل والتفاهة والقشور

خمس حقائب! خمس حقائب تكفي وفق المسرحي توفيق الجبالي لجمع مضامين الثورة وأحداثها... وإذا ما جمّعنا «أدباش» الثورة ورحّلناها بعيدا عنا، فكيف تكون حالة المجتمع الذي نعيش فيه؟ وماهو المآل الذي ينتظر جسدا يشكو عللا وأمراضا عديدة؟
يرفع الجبالي في عمله المسرحي الجديد «التابعة» الغطاء عن القدر التونسي فتفوح منه روائح مميزة لشعب تعلّق بالقشور وتفنن في استنباط أشكال جديدة لها وان بدا منفتحا ومقبلا على الحياة.. فالكل يقضي وقته ويستنزف طاقته في «القيل والقال» وفي الحكايات التي لا معنى لها، كأن تبقى في عرس حتى موعد التعليلة أو تنسحب قبل ذلك؟ وفي التعليق على جرائم المدينة وعنفها اليومي، وفي حديث «منكر ونكير» و«بول البعير»، وفي التراشق بالمخجل من التهم. وأمّا المثقف، فهو يعيش في برجه العالي في قطيعة مع مجتمعه، يهذي بماركيز وبمفاهيم الموت والكتابة، عاجزا عن التواصل مع محيطه وعن نشر قيم المعرفة والتفكير والسؤال.
ومن خلال القطيعة الحاصلة بين عامة الناس الذين فقدوا عقارب توازنهم وبين المثقف المعزول، تبرز النظرة النقدية التي يلقيها الجبالي على المجتمع التونسي، فمن جهة هناك «عامة» مسربلون بالقشور وبالتفاهات وبضيق الآفاق، ومن جهة أخرى «خاصة» مثقفون يسبحون في بحيرات العزلة والانكسار...
في مشهد «جيومتري ـ موسيقي» مميز، تقرع الدربوكة بقوة في لحن شرقي راقص، في محاولة لتزويق المشهد الموبوء ولإخفاء إخلالاته، فتطفو -عكس المنتظر- التشوهات والتناقضات على السطح، بين أوجاع داخلية محليّة ونفاق إيقاع لحن شرقي أنيق.
ثم تتتالى الإيحاءات الساخرة، فيُدرك المتفرج أنّ المجتمع الذي نعيش فيه مريض بسطحيته وبعدم وعيه بحقوق الإنسان، وبجموده الفكري الرافض للاجتهاد، وبالقطيعة الحاصلة بين عامة الناس والمثقفين. فما الذي يمكن أن ننتظره من هذا المجتمع؟ وهل محكوم عليه بالاضمحلال أم هناك امكانية لحياة جديدة مغايرة؟
لقراءة المستقبل، ينكب الممثلون في مشهد غريب من نوعه، لا على فناجين القهوة بل على أوعية بلاستيكية ـ عادة ما نستعملها في بيوت الحمام- في مسعى فاشل لإستبيان خطوط الهمّ الذي يغمرنا، وكأنّ بتوفيق الجبالي يتساءل -ساخرا- عما يمكن أن نستقرئه من «الخراء»؟
تتعالى أفكار الجبالي بحزن ممزوج بالحنين وبنظرة ثاقبة لا تقبل المساومة، فالحال لا تطاق ومنطق «دزان النح» لا يُرجى منه أيّ خير..
تنسدل حينها ستائر بيضاء -شكلت الديكور الأساسي لمسرحية «التابعة»- على الركح لتقلب في خطوة أولى موازين عمل الجبالي الجديد على المستوى الإخراجي، ويطلّ من بينها ثلاثة ممثلين ليصدحوا بصوت واحد: «لاباس.. لاباس.. أحنا لاباس» ثم يُديرون ظهورهم للمتفرجين لينقلب المشهد رأسا على عقب ويبرزوا منتحرين بعد أن أحكمت خيوط الستائر قبضتها على رقابهم.. مشهد في آية البلاغة والرمزية لمجتمع انتحر طوعا لأنّه لم يدرك أنّه وضع نفسه على طريق دون منفذ.
ولأنّ القتامة لا تشبه الجبالي في شيء، يُحدث مخرج «التابعة» منعرجا إبداعيا خاصا من نوعه يستدعي فيه الخيال والوسائل البصرية المخادعة... تتساقط أمطار غزيرة على الركح ثمّ ثلوج بيضاء على أزرق البلد وهمّ البلد ليبدأ العد التنازلي، فالبقاء على هذه الرقعة لم يعد يطاق ولو أنّ الأمل مازال قائما..
عدّ تنازلي وثلوج مطهّرة تُبدد التشوهات وتبيد الأدرَان قبل أن يُزهر «آدميون» جدد، جنس بشري مختلف في تركيبته الجسدية والفكرية يتقدم بخطوات بطيئة على الركح حاملا معه آمال وطموحات عهد جديد... هذا ما قد يكون حلُم به توفيق الجبالي في عمله المسرحي الجديد متحديّا وساحبا البساط من تحت أقدام «التابعة» التي ظلت تلاحقنا منذ عقود... تابعة الجهل والتفاهة والقشور و«دقان الحنك» وأمّا الثورة بمعناها السياسي، فلا أمل يُرجى منها إذا لم ننتفض على جوهر ماهو مريض فينا.
شيراز بن مراد
صور: كريم العامري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق