الأربعاء، 21 أكتوبر 2015

مسرحية "الدنيا منامة" لحفيز ضوّ وعائشة مبارك ودافيد بوبي: تهشيم للمرآة العاكسة لمفاهيم السلطة المتجبرة

هل تدرك زهرة شجرة اللوز عندما تكون متفتحة في أوج جمالها صباحا أنّ
هبة ريح وحيدة يمكن أن تسقطها أرضا فتفقد نضارتها وعنفوانها؟
يقول الكاتب الإسباني بيدرو كلدرون (القرن السابع عشر) في روايته «الدنيا منامة» أنّ «هناك فرقا ضئيلا بين الحياة والحلم إلى درجة أنّنا لا يمكن أن نجزم إن كان ما نشاهده كذبا أم حقيقة».. بالاعتماد على هذه الفكرة الجوهرية في رواية الكاتب الإسباني بيدرو كلدرون، قدّم الثلاثي حفيز ضوّ وعائشة مبارك ودافيد بوبي عملا مسرحيا مميزا يمكن القول بأنّه من أهم الأعمال التي عُرضت خلال الدورة 17 لأيام قرطاج المسرحية...
فمن على ركح المعهد الفرنسي بتونس وبمشاركة عدد من الممثلين على غرار هشام رستم وأميرة الشبلي وعبد الحميد بوشناق ونجمة الزغيدي ومراد الحرزي وبلال الباجي، تعالت حيثيات قصة غريبة الأطوار... قصة ملك يسجن ابنه لمدة 20 عاما في برج معزول بمملكة بولونيا بعد أن أعلمته الأبراج أنّه طالع سوء على البلد. ومع تقدمه في السن، يُقرر الملك بازيليو (هشام رستم) إخلاء سبيل ابنه سيجيسمون (عبد الحميد بوشناق) وتنصيبه على سدّة الحكم. غير أنّ ابنه الذي عاش في عزلة طيلة سنوات يُبدي طابعا متوحشا دمويا، فيقتل خادمه ويحاول اغتصاب إحدى فتيات المملكة.. حينها يُقرر والده إرجاعه الى عزلته لوضع حدّ للمصيبة التي حلّت بالبلد ويُعيّن ابني اختيه (أميرة الشبلي وبلال الباجي) لإدارة الشؤون العامة.. تندلع حينها ثورة شعبية رافضة لهذا التعيين وتنادي بإعادة تنصيب الأمير سيجيسمون... لا يصدق هذا الأخير إن كان ما يعيشه حقيقة أم وهما ويقرر أن يكون ملكا عادلا ومحبا لشعبه.. 
ومن خلال هذه القصة التي تتضمن رمزية فائقة، يتطرق الثلاثي ضو ومبارك وبوبي إلى عدّة مواضيع منها العلاقة المرضية بالسلطة ورغبة الشعوب في تقرير مصيرها فضلا عن معاني الحرية والقمع والتسلط...
ولعل اللافت في هذا العمل المسرحي في نسخته التونسية ـ الفرنسية يتمثل في طريقة التعاطي الركحي مع الأحداث الدرامية للرواية، فخلافا للركح الكلاسيكي، جاء ركح المسرحية مستطيلا وتواجه فيه طرفان: من جهة الملك بازيليو على عرشه يقابله من الجهة الأخرى ابنه الأمير سيجيسمون (عبد الحميد بوشناق) مسجونا في برجه المعزول... عالمان على طرفي نقيض الأول من الثاني، وبين الاثنين مسافات من جبروت السلطة وآلام العزلة وضياع المصير.
يتقدم كل طرف نحو الآخر في محاولة لمد جسور التواصل أو بالعكس لقطعها.. تلتهب المواقف، ترتفع الأصوات، تشتعل أضواء وتنقطع أخرى لتروي كلها ملحمة يحضر فيها التوحش الإنساني، والجشع للسلطة، وقيم الوفاء، والتوق الى العدالة، والاستبداد، والطيبة، والظلم، والخسران، والتزلف...
وهي كلّها تيمات عمل المخرجون الثلاثة على إبرازها مسرحيا حتى تكتمل الصورة دون الابتعاد عن الخط الأساسي للعمل الأصلي وهو هل ما نعيشه وهم أم حقيقة؟ وهو سؤال فلسفي يدفع إلى مراجعة النفس وإلى نكران الذات وإلى التواضع.. فمهما حقق الانسان ومهما بنى وشيّد وعلّى، يمكن أن يخسر كل شيء في رمشة عين... ولو سلمنا بهذه البديهية، لما كانت الغطرسة ولما كان التكالب على السلطة ولما كان الاستغلال الفاحش ولما كان جنون الكرسي.
ومن المشاهد اللافتة للانتباه في المسرحية على المستوى الجمالي، لوحة الثورة الشعبية العارمة التي نادت بتنصيب الأمير سيجيسمون على كرسي العرش.. فوضى بشرية عنيفة ما بين دخان وأضواء كاشفة في ليل حالك... لوحة صيغت بكثير من الحرفية التي تجعل المتفرج يتماهى مع أحداث المسرحية إلى حدّ الانصهار في المشهد الدرامي في لحظة بين الحلم والحقيقة.
ودون أدنى شك يمكن القول بأنّ «الجسد» شكل أداة من أهم أدوات هذا العمل المسرحي، وقد يكون ذلك عائد التي تكوين حفيز ضو وعائشة مبارك في مجال الرقص، فقد طُوعت أجساد الممثلين لتملأ الفضاء الركحي بطاقتها وبحراكها الذي صوّر النصر والهزيمة والعظمة والانكسار لتتكامل العناصر كلها بين نص وموسيقى وجسد وأضواء مولّدة عملا مسرحيا منتصرا لمبدأ «الحياة الحلم» ولا «الحياة الحقيقة»، تماما كما دعا له الاسباني بيدرو كلدرون في نصه الأصلي.
ومن الوسائل الفنية الأخرى التي التجأ اليها المخرجون الثلاثة لتكريس فكرة الحقيقة مقابل الوهم، دعوة الجمهور الحاضر الى الصعود فوق الركح، فيخال المتفرج نفسه على بلاط الامير سيجيسمون في مملكة بولونيا ويتساءل إن كان ذلك وهما أم حقيقة قبل ان يعود الى مقعده من جديد. وهكذا تتبلور فعليا فكرة "الدنيا منامة" كما جاءت في الرواية التي كتبت في العصر الذهبي الاسباني الذي يرمز الى قمة ازدهار الأدب في إسبانيا: تهشيم للمرآة العاكسة لمفاهيم السلطة المتجبرة والطغيان والتكبر والظلم والغرور ودعوة الى معانقة الشك الذي يفتح ثنايا الطيبة والانسانية. 
شيراز بن مراد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق