الجمعة، 24 يناير 2014

مسرحية التفاف لوليد الدغسني: في قلب الديليريوم السياسي-الاجتماعي الذي تعيشه تونس بعد الثورة


هل السلطة بيد الشعب؟ هل الاسلام في خطر أم في قطر؟ هل تسير البلاد الى الوراء؟ هل توّزع أمريكا القمح أم القمع؟ هل نبقى أم نغادر أرض الوطن؟ هي عيّنة من الاسئلة التي طرحتها مسرحية «التفاف» لوليد الدغسني التي عرضت يوم 14 جانفي بقاعة الفن الرابع بالعاصمة بمشاركة كل من أماني بلاعج ومنير عماري ومكرم الصنهوري..
وقد عبّر هذا العمل عن حالة الغليان التي يعيشها الوطن: غليان السياسة والمجتمع، غليان المواطنين العاديين وغليان النخبة السياسية، غليان شعب دخل في حالة من الهذيان الجماعي بعد ان تعددت المفاهيم والاشكاليات والاسئلة اثر سبات دام لعقود، فمن نُصدّق ومن نُكذّب؟ ولكي يمرّر رسالته، سار وليد الدغسني على وقع ثنائية غليان الافكار وغليان الاجساد اذ تشابكت الاسئلة والقضايا التي طرحها أبطال المسرحية بـ «حالة جسدية» متأثرة بما يدور حولها من صخب.
دون تأن، دفع وليد الدغسني بشخوصه الى قلب إعصار ما بعد الثورة، فارتدى بطلا المسرحية وهما امرأة (أماني بلاعج) ورجل (منير عماري)، لبوس الخوف والخيبة وكذلك الحلم والامل مصورين للمشاهد عددا من القضايا التي شغلت بال التونسيين بعد الثورة ومنادين في الوقت نفسه بضرورة ايجاد حلول لتونس التي نشترك في حبها..
ويذهب المخرج  الى أبعد من ذلك بشخوصه الذين أصيبوا بحالة «مرضية» مستعصية الفهم.. فقد استبطنت أماني بلاعج، التي كان أداؤها أكثر من مميّز، أعباء الثورة وتساؤلاتها، وجاءت تعبيراتها الجسمانية منفعلة وديناميكية ولم تترك جزءا من الركح الا واحتلته ناقلة كل الحراك والهواجس التي تغلغلت في كيان التونسيين.. أما منير عماري فقد بدا أقلّ حيوية وكأنه لم يتمكن من التخلص من جلباب الماضي بما فيه من انتهازية ومن ردود فعل بافلوفية مازالت تسعى للمهادنة و”للتبندير”. ولعل اللقطة العجائبية التي يظهر فيها الممثل مكرم الصنهوري في حالة انسان-حيوان «برمائي»، تعطي فكرة عن مدى الحيرة التي أضحى يعيشها العديد منا، فمن نحن وماذا نريد لحاضرنا ولمستقبلنا؟
بنفس كوميدي واضح، إستدرجنا وليد الدغسني، الى أعماق الاسئلة المصيرية التي مزقت الجسد التونسي وشرذمت بين أطياف عديدة من التونسيين حتى باتوا تائهين حائرين أمام ما قد ينفعهم ولا ينفعهم.. فهل الحل في الديمقراطية بعد ان احتل وحرق وقتل بعضهم باسمها؟ هل الاسلام في خطر مثلما ذهب الى ذلك بعض الناس؟ هل أن صناديق الاقتراع مجرد لعبة كوميدية أم تعبير صادق لمّا يريده الشعب؟ الى ذلك من الاسئلة التي خامرت اذهان مئات الالاف من التونسيين الى حد الهوس.
ومن الغرائب التي أشار اليها وليد الدغسني في مسرحيته ذلك الكم الهائل من المصطلحات الغريبة عن مجتمعنا والتي تمكنت من «غزونا» ومن فرض نفسها علينا حتى باتت تمثل جزءا لا يتجزأ من قاموسنا اليومي ومنها الماسونية والتواطؤ والعمالة والتخوين وقد زادت الى همومنا هموما رغم أنّ البعض لا يدرك معناها أصلا. ولكي تبلغ صورة الهذيان الذي سقطت فيه ذروتها، إستدعى وليد الدغسني قصيد «ابليس» للشاعر جمال الصليعي الذي عبّر كأحسن ما يكون التعبير عن الخيبة التي سكنت النفوس بعدما عبثت النخبة بالثورة. وتقول بعض أبيات القصيد:
ابليس اذا كان منقوص المواهب في الخراب يحتاج أعواما ليبلغ ربع موهبة النخب..
ابليس ما سبّ الجلالة مرّة، هذه فصاحات النخب
ابليس يبكي من دموع يتيمة، لكن ذلك متعة عند النخب
ابليس يعجز أن يسيء لثورة عبثت بها النخب.
وختم الدغسني عمله بلوحة مميزة أخفى فيها ثالوثه جانبا من وجوههم إذ قد تكون الحقيقة، حقيقتنا مرعبة.. وممّا جاء على لسان البطلة أماني بلاعج في المشاهد الاخيرة من المسرحية ما يعني الكثير، اذ تساءلت «أنا شكون؟ إنت شكون؟ الخوف كي يطب على البلاد يعميها» في تأكيد أخير على الحيرة الوجودية التي نعيشها وعلى ضرورة التحرر من كل القيود التي تعطل مواصلة السير إلى الامام والرأس مرفوع..
في «التفاف»، غاص بنا المخرج وليد الدغسني في لبّ الديليريوم السياسي-الاجتماعي الذي تعيشه تونس بعد الثورة، هذيان هدّ النفوس والاجساد الى حد الهوس، الى حد المرض.. ورغم قوّة التيار الجارف الذي قد يعجز حتى ابليس على مجاراته، تصمد المرأة بدرجة أولى ويصمد بعدها الرجل في محاولة للقطع مع رواسب الماضي وللتصدي لكل الأمواج العاتية التي تهدد بنسف أوتاد الوطن..
شيراز بن مراد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق