الثلاثاء، 28 يناير 2014

فيلم «Hecho en Casa» لبلحسن حندوس: تيه بشري بطعم الموسيقى والبحر والسينما


«ليست لي أرض»، هذا ما جاء على لسان احدى شخصيات الفيلم الوثائقي «صنع في البيت» أو بالاسباني «Hecho en Casa» الذي عرضه المخرج بلحسن حندوس مؤخرا في سينما الريو بالعاصمة.. حول هذا الإعتراف الذي يفيض بكم هائل من الاحساس بالغربة وبالحيرة الوجودية دارت أطوار فيلم نقل حقبة من حياة المخرج الشاب بلحسن حندوس وتحديدا من 2008 الى 2012 أي منذ ان كان طالبا بإسبانيا والى حين عودته الى أرض الوطن..
في هذا الشريط الذي جاء بالابيض والاسود والذي صوّره حندوس بواسطة هاتف جوال -نعم بواسطة هاتف جوال-، تموجت الدواخل على وقع الوحدة والاحساس بالضياع.. فأن تكون في جنوب المتوسط أو في شماله، فلا بدّ أن تٌسكن بأسئلة وجودية حول معنى حياتك وستشعر يوما -حتما- بإحباط يتناحر داخلك، فماذا تريد ان تفعل بحياتك وما هي الإضافة التي يمكن أن تقدمها على هذه الأرض.. وقد اقتفى هاتف بلحسن حندوس أثر هذا التيه البشري وهذه الاحاسيس الانسانية المتناقضة التي تفور في الكيانات من خلال نقل انطباعات شخصية وأخرى لرفاق الدرب..
وفي ذورة وحدته، وهي من اللقطات الاكثر تعبيرا في الفيلم، يستنجد المخرج بالبحر وبعظمته فيخاطب مياه المتوسط ويناجيها عسى أن تذيب شيئا من جليده الداخلي.. فحذو البحر تهدأ النفوس وتستعيد سكينتها المفقودة.. كما شكلت الموسيقى عنصرا هامّا في هذا الفيلم الذي سلك طريق المرارة فقد بدت فيه بمثابة الخلاص الالهي الذي يشفي النفوس من علّتها، فتحدت أغنية «تكبر، تكبر» بصوت لبنى نعمان مشهدا كساه الظلام الحالك، حتى بدا الظلام رقيقا وجميلا بعيدا عن وحشته المعتادة..
وفي مواقع عديدة من الفيلم الذي أنتجته شركة "إكزيت"، تغنى المخرج بمقطع من أغنية «همس الموج» لمنية البجاوي تقول كلماته «وهمس الموج وهمس الريح وأنا والليل وقلبي جريح» لينقل للعالم حجم الوحدة التي يعاني منها.. ثمّ يتواصل السفر مع أنغام موسيقى عبد الحليم حافظ التي رافقت شيخا كان بصدد أداء رقصة أكثر من جميلة بأحد المقاهي الشعبية للعاصمة.. فبدا الشيخ أشبه بنورس حرّ لا يبالي بمآسي الحياة..
أول فيلم تونسي طويل ينجز بالهاتف الجوال
ولقد جسد بلحسن حندوس بفيلمه هذا، الذي لم يتطلب لا فريقا تقنيّا ولا كاميرا تصوير مكلفة، «حلم السينما» متحديا كل العراقيل والصعوبات التي عادة ما تعترض أيّ مخرج يعتزم تصوير شريط.. وقد يكون هذا الفيلم ساهم في انقاذ أشواط من حياة بلحسن حندوس بعد أن أضفى معنى لوجوده.. ودون شك مثّل الثالوث «البحر» و«الموسيقى» و«حلم السينما» ترياقا لكلّ السموم التي هدّدت حياة عابر تونسي على هذه الارض يدعى بلحسن حندوس، فصمد وتحدى الغربة وصعوبة العودة الى أرض الوطن بما يستوجب  ذلك من تأقلم وبحث جديد عن المراجع..
كما لا بد أن نتوقف عند الجانب الجمالي لهذا الفيلم الذي جاء بالابيض والاسود حيث شاكس فيه المخرج ألوان الحياة ليضعها جانبا، كما وضعته هي خارج إطار الصورة الجميلة، فرسم بالابيض والاسود ودرجات الرمادي سمفونية حياة أخرى، اتسعت فيها رقعة الداكن والمضيء، أو انحسرت وفق مزاجات المخرج والاحداث التي تناولها.. وقد إنطبعت في أذهاننا عدة مشاهد-لوحات من زمن بعيد قريب يروي شيئا من ذواتنا الحالمة.
وفي زخم الابيض والاسود وبين طعم المرارة والتعلق بالحياة، إستدعى المخرج الاطفال وبراءتهم ليعمّروا اجزاء من فيلمه، فهذا مولود جديد وهذا صبي بصدد خوض معركة شرسة وهذه طفلة تحاول إثبات وجودها في إشارة لإستمرارية الحياة التي تتواصل، بحلوّها ومرّها، يوما بعد يوم وولادة بعد ولادة متحدية كل الهزائم والاخفاقات والاحباطات.
في “صنع في البيت”، تعرى المخرج بلحسن حندوس إنسانيا ليرسم ثنايا تيه بشري تونسي وإنساني أطعمه بصدق الموسيقى وبحلم السينما وبعظمة البحر. فنجا شئ من نفسه من هلاك أكيد.
شيراز بن مراد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق