الكـلام المعطّــر والكـلام الـمــرّ
من الصّور التي ارتسمت في أذهان المتابعين لمداولات المجلس التأسيسي في أيّامه الأولى، انزعاج النوّاب النهضويين وحلفائهم من النقد، اذ اتّضح انّ صدورهم ضاقت بمقترحات واعتراضات الأقلّية وكأنّهم هم ـ وحدهم ـ الذين يدركون مصلحة تونس في حين «يتخبّط» الآخرون خبط عشواء في الضلالة...
وقد راح بعضهم يستعمل مصطلحات من قبيل «عرقلة» و«مؤامرة» و«اتهامات» بهدف التشكيك في جدّية النوّاب المعارضين، وهو ما يعتبر في حدّ ذاته انعكاسا لنفسيّة اقصائيّة لا تعترف بالتحاور وبتبادل الآراء..
ولقد استغرب العديد من متابعي الشأن السياسي ردود الفعل المتشنجة لكل من رئيس كتلة النهضة في البرلمان نور الدين البحيري وزميليه سمير ديلو ووليد البناني إزاء مداخلات بعض ممثلي المعارضة.. ولكي لا أبدو متحاملة، أنقل لكم ما كتبه أحد صحفيي جريدة الفجر لسان حال حركة النهضة تعليقا على ما صدر من النائب البحيري: «قدّم نور الدين البحيري صفعة قويّة في وجه كل من زايد من داخل المجلس على حركة النهضة»! ولكم حرّية التعليق على عبارة «صفعة قويّة» ويبدو أنّنا دخلنا في عهد الصفعات «وربي يستر» من القادم.. كما استغربوا ما جاء في تدخل نائب المؤتمر محمد عبو الذي أشار إلى مؤامرة تستهدف البلاد.. وإذا سلمنا جدلا بأنّ هناك مؤامرة فعليه ان يكشف خيوطها فورا.. انّ هذا الكلام مردود على صاحبه خاصّة أنّه جاء في شكل استعراض عضلات على أقلّية لم تتمكّن، في أحيان عديدة من تمرير اقتراحاتها بسبب عدم تكافؤ موازين القوى داخل المجلس لصالح الثالوث: النهضة والمؤتمر والتكتّل..
وفي اعتقادي، فإنّه على النواب، وهم على أبواب صياغة دستور كل التونسيين ولا فئة واحدة منهم، أن يتحلّوا بقدر اضافي من الأريحية ورحابة الصّدر والتواضع، وانّ يفتحوا عقولهم لما هو مختلف ومغاير خدمة لمصلحة تونس وحدها، فقد تخطئ الأغلبيّة وإن كان أعضاؤها على قدر من الحكمة والرصانة..
على صعيد آخر، رأى بعض النوّاب في اعتصام باردو ضربا لاستقرار البلاد، ولكنهم لم يروا ـ مع الأسف ـ الرّوح الإيجابيّة التي تميّز بها واليقظة التي كانت تلهب المعتصمين الذين لم يعبّروا عن ولائهم لهذا الحزب أو ذاك بقدر ما عبّروا عن ولائهم لتونس الحقوق والحرّيات والعدالة دون سواها.. وكان يكفي لأيّ منّا ان يواكب هذا الاعتصام ليعي الرّسالة القويّة التي بعث بها المحتجّون والتي مفادها أنّ المجتمع المدني عيونه مفتوحة ويراقب ما يحدث داخل مبنى مجلس النوّاب من تجاذبات سياسيّة مصيريّة ستحدّد مستقبل البلاد.. ولا أخفي عليكم انّ أكثر ما حزّ في نفسي، وانا أستمع لعدد من المعتصمين، هو تهميش ملف شهداء وجرحى الثورة الذين لولا دماؤهم ما كان لهذه الثورة، ان تنجح في خطواتها الأولى وما كانت الأحزاب السياسيّة لتجتمع في هذا المجلس اليوم.. لقد كان من الضروري في تقديري، ان يعلن المجلس التأسيسي الموقّر في أوّل عمل له، قبل الانصراف إلى مشاريع قوانين السلط العموميّة والنظام الدّاخلي، عن تكوين لجنة تعنى بملف الشهداء والجرحى اذ لن أذيع سرّا إذا قلت انّ عددا من المصابين يعانون من حالات صحية متدهورة.. ألم يكن من الضروري تقديم هذه اللّمسة الإنسانية على النقاشات السياسية؟
وفي سياق متصل، اسمحوا لي بأن أتوجّه بتحيّة لامرأة لم تكن من بين معتصمي باردو، لكنّها كانت بصدد المرور أمام مقرّ المجلس للالتحاق ببيتها بعد يوم عمل... لقد استمالتها النقاشات التي كانت تدور هناك فعبّرت عمّا يخالج نفسها حيث قالت : «إنّ أهمّ شيء بالنسبة إلي هو القطع مع ممارسات الماضي من نهب وفساد وتهميش وهيمنة»، لقد اختصرت بكلمات بسيطة مبادئ كبيرة وهي شفافيّة الإدارة ومحاسبة المسؤولين الكبار والعدالة الاجتماعيّة وتوازن السلط.. فما أروع موقفها ويا ليت نوّابنا المحترمين يصغون الى الكلام المرّ إصغاءهم للكلام المعطّر..
وحرّي بنا ان نتساءل اليوم عن مدى تقبّل النهضويين وحلفائهم للنّقد وهم الذين سيتولّون رئاسة الحكومة وأغلب الوزارات بعدما حذّر بعض الحقوقيين والمفكّرين من امكانيّة عودة الاستبداد مجدّدا في حالة عدم تقبّل الأغلبيّة لسلطة مضادّة قويّة تعمل على تحقيق توازن القوى..
لن يفيدنا نظام «اضحك حتى تكون الصورة جميلة» والذي تظهر فيه الشفاه باسمة ومؤيّدة فقط، بقدر ما سنتعظ بالآراء المخالفة التي قد تزعج وتعكّر الأمزجة لكنها قد تفرز المعادلات الأنسب.
من الصّور التي ارتسمت في أذهان المتابعين لمداولات المجلس التأسيسي في أيّامه الأولى، انزعاج النوّاب النهضويين وحلفائهم من النقد، اذ اتّضح انّ صدورهم ضاقت بمقترحات واعتراضات الأقلّية وكأنّهم هم ـ وحدهم ـ الذين يدركون مصلحة تونس في حين «يتخبّط» الآخرون خبط عشواء في الضلالة...
وقد راح بعضهم يستعمل مصطلحات من قبيل «عرقلة» و«مؤامرة» و«اتهامات» بهدف التشكيك في جدّية النوّاب المعارضين، وهو ما يعتبر في حدّ ذاته انعكاسا لنفسيّة اقصائيّة لا تعترف بالتحاور وبتبادل الآراء..
ولقد استغرب العديد من متابعي الشأن السياسي ردود الفعل المتشنجة لكل من رئيس كتلة النهضة في البرلمان نور الدين البحيري وزميليه سمير ديلو ووليد البناني إزاء مداخلات بعض ممثلي المعارضة.. ولكي لا أبدو متحاملة، أنقل لكم ما كتبه أحد صحفيي جريدة الفجر لسان حال حركة النهضة تعليقا على ما صدر من النائب البحيري: «قدّم نور الدين البحيري صفعة قويّة في وجه كل من زايد من داخل المجلس على حركة النهضة»! ولكم حرّية التعليق على عبارة «صفعة قويّة» ويبدو أنّنا دخلنا في عهد الصفعات «وربي يستر» من القادم.. كما استغربوا ما جاء في تدخل نائب المؤتمر محمد عبو الذي أشار إلى مؤامرة تستهدف البلاد.. وإذا سلمنا جدلا بأنّ هناك مؤامرة فعليه ان يكشف خيوطها فورا.. انّ هذا الكلام مردود على صاحبه خاصّة أنّه جاء في شكل استعراض عضلات على أقلّية لم تتمكّن، في أحيان عديدة من تمرير اقتراحاتها بسبب عدم تكافؤ موازين القوى داخل المجلس لصالح الثالوث: النهضة والمؤتمر والتكتّل..
وفي اعتقادي، فإنّه على النواب، وهم على أبواب صياغة دستور كل التونسيين ولا فئة واحدة منهم، أن يتحلّوا بقدر اضافي من الأريحية ورحابة الصّدر والتواضع، وانّ يفتحوا عقولهم لما هو مختلف ومغاير خدمة لمصلحة تونس وحدها، فقد تخطئ الأغلبيّة وإن كان أعضاؤها على قدر من الحكمة والرصانة..
على صعيد آخر، رأى بعض النوّاب في اعتصام باردو ضربا لاستقرار البلاد، ولكنهم لم يروا ـ مع الأسف ـ الرّوح الإيجابيّة التي تميّز بها واليقظة التي كانت تلهب المعتصمين الذين لم يعبّروا عن ولائهم لهذا الحزب أو ذاك بقدر ما عبّروا عن ولائهم لتونس الحقوق والحرّيات والعدالة دون سواها.. وكان يكفي لأيّ منّا ان يواكب هذا الاعتصام ليعي الرّسالة القويّة التي بعث بها المحتجّون والتي مفادها أنّ المجتمع المدني عيونه مفتوحة ويراقب ما يحدث داخل مبنى مجلس النوّاب من تجاذبات سياسيّة مصيريّة ستحدّد مستقبل البلاد.. ولا أخفي عليكم انّ أكثر ما حزّ في نفسي، وانا أستمع لعدد من المعتصمين، هو تهميش ملف شهداء وجرحى الثورة الذين لولا دماؤهم ما كان لهذه الثورة، ان تنجح في خطواتها الأولى وما كانت الأحزاب السياسيّة لتجتمع في هذا المجلس اليوم.. لقد كان من الضروري في تقديري، ان يعلن المجلس التأسيسي الموقّر في أوّل عمل له، قبل الانصراف إلى مشاريع قوانين السلط العموميّة والنظام الدّاخلي، عن تكوين لجنة تعنى بملف الشهداء والجرحى اذ لن أذيع سرّا إذا قلت انّ عددا من المصابين يعانون من حالات صحية متدهورة.. ألم يكن من الضروري تقديم هذه اللّمسة الإنسانية على النقاشات السياسية؟
وفي سياق متصل، اسمحوا لي بأن أتوجّه بتحيّة لامرأة لم تكن من بين معتصمي باردو، لكنّها كانت بصدد المرور أمام مقرّ المجلس للالتحاق ببيتها بعد يوم عمل... لقد استمالتها النقاشات التي كانت تدور هناك فعبّرت عمّا يخالج نفسها حيث قالت : «إنّ أهمّ شيء بالنسبة إلي هو القطع مع ممارسات الماضي من نهب وفساد وتهميش وهيمنة»، لقد اختصرت بكلمات بسيطة مبادئ كبيرة وهي شفافيّة الإدارة ومحاسبة المسؤولين الكبار والعدالة الاجتماعيّة وتوازن السلط.. فما أروع موقفها ويا ليت نوّابنا المحترمين يصغون الى الكلام المرّ إصغاءهم للكلام المعطّر..
وحرّي بنا ان نتساءل اليوم عن مدى تقبّل النهضويين وحلفائهم للنّقد وهم الذين سيتولّون رئاسة الحكومة وأغلب الوزارات بعدما حذّر بعض الحقوقيين والمفكّرين من امكانيّة عودة الاستبداد مجدّدا في حالة عدم تقبّل الأغلبيّة لسلطة مضادّة قويّة تعمل على تحقيق توازن القوى..
لن يفيدنا نظام «اضحك حتى تكون الصورة جميلة» والذي تظهر فيه الشفاه باسمة ومؤيّدة فقط، بقدر ما سنتعظ بالآراء المخالفة التي قد تزعج وتعكّر الأمزجة لكنها قد تفرز المعادلات الأنسب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق