«صرنا نذبح بعضنا البعض ذبح النعاج.. ما شاهدته في سوريا يدفعني الى أن أنسى الورد الذي في حديقتي واهتمّ بالشهيد الذي سقط في كل منعرج» هكذا تحدث الكاتب السوري الكردي جان دوست خلال استضافته في معرض الكتاب الذي أقيم في تونس في الفترة الفاصلة بين 27 مارس إلى 5 أفريل 2015.
فخلال لقاء جمعه بالروائي والصحفي كمال الرياحي، تحدث كاتب "عشيق المترجم" و"دم على المئذنة" و"مم وزين" و"ماهاباد" عن آخر إصداراته وعن علاقته باللغة العربية فضلا عن القضية الكردية والتراجيديا التي عاشتها مدينة كوباني مؤخرا. في بداية اللقاء، أثار دوست موضوع علاقته باللغة العربية قائلا انّ العربيّة ليست لغة غريبة عنه، بل العربيّة «أمّ بالرضاعة الفكرية».
كتبت بالكردية مناصرة لقومي الكرد
وبيّن دوست انّه حجب الكتابة بالعربية لخلفيات قومية ضيّقة قائلا: «أحببت انّ أناصر قومي الكرد في نوع من النضال القومي فكتب بالكردية غير انّ اللغة العربيّة تعود الى السطح دائما كما تجتمع المياه الجوفية في باطن الأرض وتنفجر في يوم ما.. كان لابدّ أن أزيل الاحتقان اللغوي داخل رأسي وأكتب بالعربية نصا أخفّف به ما أعانيه».
هنا سأله الكاتب كمال الرياحي إن كان يعتبر اللغة «أداة قتال العدو» بالمعنى المجازي ولا بالمعنى الحاف للكلمة، فقال دوست إنّ اللغة هي شكل من أشكال مقاومة اللغة المهيمنة مضيفا انّ اللغة العربية ليست لغة عدوة بل هي لغة الأنا الأعلى في سوريا مقارنة بالأنا السفلى. وبيّن دوست أنّ الأنا العليا هي أنا السلطة.
هناك حالة عشق بيني وبين اللغة العربية
وأردف قائلا: «هناك حالة عشق بيني وبين اللغة العربية وأنا جزء من الجغرافيا العربيّة الواسعة».. وأضاف المتحدث انّ اللغة الكردية كانت مقموعة وممنوعة، وكان ممنوعا على التلاميذ في المدارس أن يلفظوا الكردية بينما هي اللغة الأم التي تقال في السرّ ووراء الجدران المغلقة، مما دفع ببعض الكرد الى بعث مدرسة سريّة لتدريس الكردية وهي لغة شعب موجود، لكنها لغة عدو بالنسبة للنظام الذي كان ينتهج العنصرية الشوفينية.
ورغم الحصار الذي ضُرب على اللغة الكردية، قال جان دوست إنّه يمكن التحدث عن «المعجزة الكردية»، فقد كانت اللغة مقموعة وفي يوم من الأيام نجد روايات ونصوصا هامّة دونت بهذه اللغة.
حُورب سليم بركات بسبب قوميّته ولا على أساس ابداعه
وحول حظوظ الكردي الذي يكتب بالعربية وامكانيات نشر مؤلفاته، ضرب جان دوست مثال سليم بركات قائلا انه حورب في سوريا ليس لأنّ ابداعه لا يفهم بل لأنّه كردي. وذكر أنّ جريدة تشرين التي يصدرها الحزب الاشتراكي السوري هاجمت مثلا سليم بركات عن خلفية علاقاته مع اليهود، كما حورب وتم التنبيه الى قوميته لأنه كردي، بإختصار كان يُنظر الى قوميّة المبدع لا الى ابداعه.
ودائما بخصوص سليم بركات الذي ترجم له دوست رواية «الريش» من العربية الى الكردية، قال الضيف إنّه هام «أن نعيد سليم الى بيته وهو «الابن الضّال» أو الطائر الذي خرج من السرب ونريد ان نعيده الى سربه» مشيرا الى أنّ سليم بركات كتب بروح كردية ويعتبر من الكتاب الكرد. وقال: «لا نطلب من بركات ان يبدع بالكردية، بل نحن من سيقوم بإيصال صوته الى من يقرأ له».
رواية «عشيق المترجم» هي عمل الآن أو اللحظة التي يُسفك فيها الدم بذريعة الدفاع عن الله
أمّا عن روايته الأخيرة «عشيق المترجم»، فقال دوست أنّ هذه الرواية هي «عمل الآن أو اللحظة التي يُسفك فيها الدم بذريعة الدفاع عن الله». وأضاف دوست: «أتمنّى أن لا أكون مهرطقا لكنّنا نحاول أن نحرّر الله من الذين صادروه لمصلحتهم الخاصّة». وبيّن دوست أنّ رواية «عشيق المترجم» تنقل قصّة مجموعة من الفتيان المسيحيين الذين يسافرون الى روما لتعلم اللغة اللاتينيّة كي يعودوا الى بلادهم مترجمين ويرافقهم شاب مسلم، فتجري حوارات مع الراهب والفتيان ويحدث تماه بين شخصيات تنتمي الى مذاهب مختلفة لكنّها تلتقي حول قيمة التسامح.
نحن محكومون بالحب وعلينا ان نُفخخ أقلامنا ورواياتنا بالتسامح
وفي سياق روايته الأخيرة، قال دوست: «نحن نُفخخ أقلامنا والروايات التي نكتبها بهذه الأفكار -أي التسامح- التي يجب أن تصل الى الناس».. يستوقفه هنا كمال الرياحي متسائلا: هل من معنى للالتزام اليوم؟ فيجيب دوست أنه يعتبر نفسه ملتزما وأنه من المهم أن نواجه من يؤمنون بالتطرف بالأدب. فما دام الظلام موجودا في مناطقنا، فمن دورنا أن نتصدّى له.. أن نكتب عن شيء نفتقده وهو التسامح». وقال دوست «إنّنا محكومون بالحب، فإذا قال سعد اللّه ونوس إنّنا محكومون بالألم، فأعتبر أنّنا لا نستطيع أن نواجه الحرب الا بالحب. لا يمكن أن نواجه الموت إلاّ بالحب فهو أقوى الأسلحة ضدّ الموت».
أنحاز للإنسان قبل كل شيء
وفي ما يتعلق بروايته «دم على المئذنة» التي تعرض فيه دوست لمسألة كردية كردية، قال الكاتب: «أنا أنحاز للإنسان قبل كل شيء.. لقد كتبت هذه الرواية دفاعا عن أناس بسطاء قتلوا من قبل القوّات الكردية.. أنا أنتمي الى مولاي أحمد خاني الذي دعا منذ قرن الى تحرر الكرد من العثمانيين كما دعا الى نقد الأمير».. ويضيف دوست «عشنا في سوريا تحت ظلّ القمع وعلينا ان ننسى القمع والزنازين بحجة أنّ هناك عدوا خارجيّا اسمه اسرائيل!»
لم يبق في كوباني بيت يتذكره النازحون
وبخصوص التراجيدية التي عاشتها مدينة كوباني الكردية السورية، قال جان دوست إنّه لم يبق فيها بيت يتذكره النازحون وأضاف أنّ العائلات حملوا المفاتيح معهم عندما غادروا المدينة آملين في عودة قريبة الى ديارهم ولمّا رجعوا لم يجدوا الأبواب!!
وعرّج دوست على الدور الذي لعبته نساء كوباني في التصدي لهجمات تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام قائلا إنّ «النساء الكرد سطرن سطورا مشرقة لنساء العالم». وأضاف أنّ الآلاف من النساء والبنات صعدن الى الجبال عندما تعلق الأمر بالمسألة القومية والدفاع عن الشعب الكردي والكثير منهن استشهد دفاعا عن القضية. وفسّر دوست مشاركة المرأة الكردية في الشأن العام بما جاء في كتاب «رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم» لمحمود بايزيدي الذي بيّن فيها مكانة وحضور المرأة في التركيبة المجتمعية الكردية. وذكر دوست أن حزب العمال الكردستاني كان له دور أيضا في تحرّر المرأة الكردية.
أيها الزائر الى كردستان...
وفي إستحضاره لمسألة القومية الكردية والشعب الكردي الذي يعتبر من أكثر الشعوب شتاتا في العالم، تحدث دوست بلغة القلب وبمنطق الإنسان الذي يطالب بالحق في دولة تجمع ناسها ومهاجريها معرّجا على الكردي «قاضي محمد» مؤسس جمهورية ماهاباد التي دامت 11 شهرا ـ وهي أول جمهورية كردية ـ وقد أعدمته السلطات الإيرانية سنة 1947 قائلا: «نحن هنا منذ آلاف السنين، جاء الوافدون واستوطنوا فيها... في مرحلة سطوع القوميات أصبح هناك خوف من الكردي فكان لابدّ من أن تكون هناك ثورات ومحاولات للتضيق عليه».
وفي خاتمة اللقاء الذي شهد تفاعل الجمهور الحاضر على غرار الأستاذ جلول عزونة والكاتبة فاطمة بن محمود والمترجم فرانشيسكو ليجيو، إستحضر جان دوست قصيد «الجندي المجهول» لعبد الله به شيو الذي قال: أيها الزائر الى كردستان الذي تحمل باقة ورود لا تسأل أين ضريح جنديكم المجهول؟ فعلى ضفة أية ساقية، على دكة أي مسجد، على عتبة أي منزل، أمام مدخل أي كهف أو محراب أية كنيسة، على أي شبر من الأرض ضع إكليلك وامض ففي كل بقعة مأساة.
شيراز بن مراد