وداعا عز الدين قنون... رجل أحب المسرح فأعطاه من روحه ودمه.. رجل آمن بالمسرح الذي يبني الإنسان ويفتح الآفاق.. صمد في مسرح الحمراء وفي المركز العربي الإفريقي للتكوين المسرحي مع رفيقة دربه ليلى طوبال..
في ظلام الحمراء، كان عز الدين قنون يطلّ بعد ان تكون أعماله أنارت العقول وأفعمت الأحاسيس، فيقول حب المسرح ويستحضر الذاكرة ويتحدى الحياة ثم ينسحب في هدوء في إنتظار حلم مسرحي جديد وكلمات جديدة وركح حي مبدع لا يهادن ولا يستسلم.
كان قنون ينادي ويدعو في كل فرصة الى ضرورة صياغة بديل ثقافي يقطع مع الحلقة المفرغة للثقافة السائدة ويعيد المسرحي والمثقف الى مكانته الطبيعية في المجتمع بعيدا عن منطق التهميش والتغييب. ولذلك دعا قنون الى مواجهة جيوب الردة الثقافية التي لم تدرك حجم التحديات التي طرحتها الثورة وإلى إحداث رجّة كبيرة في الثقافة بكل ما تحمله من مفاهيم ومضامين وأشكال. فدور الفنون والثقافة أساسي في تقدم الشعوب والمجتمعات وفق رأيه.
يؤمن قنون بـ«مسرح نخبوي للجميع» ذاك المسرح الذي يشكل وعاء يحمل كل التقاطعات من فلسفة وسياسة وفكر واقتصاد وعلوم إنسانية والتي تفرز بيانا مسرحيا حسيّا يتجه للإنسان مهما كان إنتماؤه وحتى لو كان "الإنسان العربي" لا يزال يعاني من رقابة أرجعته إلى الوراء وحدّت من تطور مستواه.
مقاومة ثقافية بأتم معنى الكلمة ذلك ما كان يفعله قنون في قلب العاصمة التي إستسلمت للفضاءات التجارية ولمنطق "جني المال" وتهميش معالم المعرفة والثقافة التي تعيد للإنسان إنسانيته. وقد عبر لنا قنون في لقاء أخير جمعنا به عن بالغ أسفه من تهاون السلطات مع الفعل الثقافي حتى غابت الثقافة عن الشوارع الحيوية للعاصمة وفي هذا إنذار بنهاية الإنسان.
ولعل الرسالة التي توجه بها قنون الى وزير الثقافة سنة 2011 تكشف الكثير عن شخصيته وعن مساره. إذ يقول قنون للوزير: "أنت لا تعرفني... اسمح لي إذن أن أقدم لك نفسي... اسمي عز الدين قنون... هل عرفتني... لا أظن... ومهنتي... هل تعرفها...لا أظن فأنا أصنع الأحلام...عندما كان الحلم ممنوعا... وعمري... هل تعرف كم عمري... لا أظن... فشعري الأبيض ليس بالبعيد عن لون شعرك... وعنوان بيتي... هل تعرفه... لا أظن... هو الحمراء... لا ...لا... ليس ملهى ليلي... انه مسرح الحمراء... قاعة عمرها 89 سنة... انتشلتها من الضياع وسكنت فيها منذ سنة 85 لأجعل منها مسرح الفنون واحد جيوب المقاومة... مقاومة الرداءة والتشليك الفني الشامل... وأولادي... هل تعرفهم... لا أظن... فهم كثر... من سنة 1980 وأنا أنجب... من"الصفقة" إلى "آخر ساعة" التي رقصت على ثلاثة أركاح ذهبية...
وأحفادي... هل تعرفهم... لا...لا أظن... فهم 279 فنانا عربيا وإفريقيا ترعرعوا في أول مركز عربي إفريقي للتكوين والبحوث المسرحية... ووطني... هل تعرف أين حلقت به... لا أظن لا أظن... فينزولا ورومانيا وفرنسا وإيطاليا وساحل العاج وسوريا وفلسطين ومصر ولبنان وفرنسا والأردن والمغرب ومالطا والبرتغال والسينيغال وبوركينا فاسو والبينين وبلغاريا والنيجر يعرفونني أكثر منك... ومبادئي... هل تعرفها... لا...لا ... لا أظن... أنا لا اطرق الأبواب ولا ألهث وراء لقاء ولا أصطف في أروقة الوزارات ولا ارتاح في قاعات الانتظار ولا اطلب صدقة".
وقد شيعت العشرات من الوجوه الثقافية فقيد المسرح التونسي عز الدين قنون الى مثواه الأخير بمقبرة الزلاج بتونس العاصمة. وكان الفقيد انتقل إلى جوار ربه يوم الأحد 29 مارس 2015 على الساعة العاشرة صباحا بعد أن أصيب بنوبة قلبية وهو في أوج عطائه وقد صدقت مقولته: "ما زلت أصنع الأحلام وتائها في الأوهام. حتى يأتي المنام". وبعد إستكمال مراسم الدفن، ودع الحاضرون قنون بالتصفيق في إشارة لعالم المسرح الذي إحتضنه طيلة حياته.
رحم الله عز الدين قنون رجل المسرح و"صانع الأحلام" الذي أعطى للفن بلا حساب.
شيراز بن مراد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق