تحفرُ مسرحية «حمّام بغدادي» للمخرج العراقي جوّادي الأسدي في قلب المحنة العراقية، تلك التي أشعل فتيلها صدام حسين ثم أجج نارها الأمريكان قبل أن يُلهب سعيرها الداعشيون.. حول هذا العمل المميز الذي تتواصل عروضه بمسرح التياترو بالعاصمة (أيام 23 و24 و25 أفريل) كان لنا لقاء مع المخرج جواد الأسدي صاحب «مسرح بابل» ببيروت وعديد الأعمال المسرحية على غرار "رأس المملوك جابر" و"العائلة توت" و"المجنزرة الأمريكية ماكبث" والتي تنبش في مجملها في انتكاسات العالم العربي وما يعتمل فيه من وجائع دفينة..
من خلال قصة مأساة أخويه اللذين أُعدما في عراق التسعينات والتي نقلها جواد الأسدي الى مسرحية «حمام بغدادي» يُدخلنا المخرج الى لبّ ألمه والى صميم الجرح العربي. حول هذا العمل الذي ينقل صفحة من صفحات السجل التراجيدي العربي كان لنا لقاء مع الأسدي تطالعونه في الورقة التالية:
استلهمت نص مسرحية "حمّام بغدادي" من مأساة عائلية عشتها في التسعينات، فلو تشرح لنا هذه الدوافع؟
سببان اثنان دفعاني الى كتابة نص «حمّام بغدادي»، فبعد غياب حوالي 25 سنة عن العراق بسبب الظلم والاستبداد والديكتاتورية، رجعت الى بلدي بعد سقوط صدام ودخول المحتلين فشعرت بأنه ليس العراق الذي أعرفه، فما فعله صدام كان بمثابة فاتحة لتخريب بلاد كانت في يوم من الايام جنة فحولوها الى رماد.. اثر ذلك حلّ الامريكان فـ"كمّلوا عليها"، مدوا أيديهم بشراسة كبيرة لتمزيق العراقيين اكثر فأكثر وهذا السبب الاول. يعني أنا خرجت من بلادي التي كانت تمثل لي فردوسا وطبيعة آسرة ومجتمعا مدنيا ثمّ عدت في يوم من الأيام فاكتشفت الخراب المهول وهو ما صدمني وجعلني أتعذب.. الشيء الثاني هو فقدان إخوتي، فقد كان لي أخوان يشتغلان في قياة الحافلات (بغداد - دمشق - عمان) وتعرضا للقتل بسب غليان النزاع الطائفي السني-الشيعي ووصول الحياة الطائفية الى ذروة وحشية جدا.. دُمرت عائلتي واجتيح بلدي فحاولت قدر الامكان أن أرسم صورة من خلال شخصين - أخوين- يقودان الحافلات ويلتقيان في حمام للاغتسال ومن ثمّة ينزلقان الى كشف البؤس والعذابات والآلام التي سُلطت على الشعب العراقي عبر حكايات بسيطة ينبشان من خلالها اختلافاتهما ومشاكلهما.
أشرتم في المسرحية الى حادثة وقعت سنة 98 واغتيل فيها 40 شابا عراقيا بالدم البارد، فلِمَ هذه الحادثة بالذات؟
تاريخ 98 هو اشارة الى نظام حزب البعث والى الجحيم الذي حدث في التسعينات عندما تحولت بغداد كلها الى سجون وتحول العراقيون كلهم الى سجناء حتى وان كانوا ليسوا في السجن، فالسلوك الاستبدادي والتفرد بالسلطة وبالثروات والحروب المتتالية مع ايران والكويت وتفريغ العراق من النبرة المؤسساتية والمدنية ثم طغيان الفكر الطائفي والسلفي، كلّ ذلك فتح الباب على هذا الجحيم الذي نحصد الآن ثماره.. باختصار ما نشاهده اليوم في العراق من تغلغل لداعش والخلاف بين السنة والشيعة والقتل الوحشي الذي لم نر له مثيلا بتاريخ العالم، لم يأت من فراغ بل من تاريخ من الانتكاسات وعلى رأسها انتكاسة الفكر الديمقراطي الذي لم تقدر السلطة العراقية الاشتغال عليه. والامريكان عندما دخلوا الى العراق، لم يدخلوا لكي ينقذوا العراقيين إنما لكي يدفعوهم الى الذل والقهر أكثر فأكثر وحتى يحولوا هذا الشعب القوي، الشعب الذي له تاريخ ومتاحف وإرث عظيم، يحولوه الى شعب لا حول له ولا قوة، شعب مثل الرجل المريض، جائع مهلهل، مفكك يذبح فيه البعض البعض الآخر وذلك حتى ينهبوا ثرواته. وقد سعى النص الى تسليط الضوء على قهر العراقيين من خلال حكايات فيها كوميديا وطرافة ثم تدريجيا تتطور الحكاية الى الأسوأ، الى المأساة..
من يتحمل مسؤولية المأساة في نظركم؟
الغرب وعلى رأسه أمريكا مع اللوبي الصهيوني المتشدد. الدولة العراقية أيضا لم تتمكن خلال الـ40 أو الـ50 سنة التي مضت من تكوين دولة مدنية، مؤسساتية تحمي الانسان، ما قدرت تبني انسانا جديدا مختلفا مثلما يفعل الاوروبيون. فعندما تزور السويد او النرويج تلاحظ أنّ الانسان محمي بالمؤسسات وبالدساتير. مع الاسف ما اشتغلت عليه الدولة العراقية هو تجهيل الناس وتعذيبهم وتفريغهم من تاريخهم. وداعش ليست الا استمرارا للنبرة السلفية الدينية المتطرفة المتراكمة منذ عشرات السنوات. اعتقد أنّ داعش «مارينز جديد» ولكن بقناع اسلامي.. الامريكان ألبسوهم قناعا اسلاميا وركبوهم ورتبوهم لكي يكونوا بمثابة قوة جديدة تقتحم الشرق وتعيد كتابة تاريخ الشرق. الامريكان أرادوا أن يرموا بالشرق الى الحروب والقتل والى التشرذم والطائفية المقيتة، أن يفرغوا الشرق وخاصة البلدان ذات الحضارة العريقة مثل العراق وسوريا ومصر وتونس، أرادوا ان يحولوا بلادنا الى خراب حقيقي.. إذا رحتم الى بغداد اليوم فستدخلون في دوامة من الحزن، فليس هذا هو العراق لا كجغرافيا ولا كبشر. أعتقد أنّ لي مع الممثلين واجبا تاريخيا للنبش ولإضاءة ما نتعرض له من هدم.
للمسرحية إذن طابع سياسي؟
لا، المسرحية ليست سياسية بل هي عمل اجتماعي انساني فيها درجات مختلفة. ما تضمنه العمل مقطع صغير مما يعيشه العراقيون اليوم وليس الا ورقة من 30 أو 100 ورقة من العذاب الذي يعيشه يوميا العراقيون.. هناك نصوص وحكايات وقصص ومجاعات ومرارات لم تمر بتاريخ الناس أبدا وقد توّجت هذه المصائب بالموصل بداعش وباغتصاب النساء تحت لائحة النكاح الجماعي وببيع النساء في سوق الجمعة. أرجعونا الى ما قبل تاريخ البدائية البذيئة بشكل أو بآخر في حين أنّ الشعب العراقي مثل وأخلاق وقيم وجمال آسر.. كلّه سقط مرّة واحدة وهذه هي الورطة الكبيرة التي نحن فيها الآن.
بقدر ما يشدنا الجانب التراجيدي في المسرحية بقدر ما نلاحظ جانب الأمل والمناداة باستعادة الانسان، فهل تعتقدون أنه مازال هناك مجال للأمل؟
عندي إحساس بالأمل ولكن بصراحة شديدة ما يجري -ولكي نكون واقعيين ولا نسقط في المغالطات- في الوطن العربي من انهيارات ومن تصدع ومن طغيان للفكر السلفي ليس بالمعنى الديني، بل بالمعنى الاجتماعي والثقافي، ما يجري أمر مريب ولا أظن أن هذا الغبار السميك المتراكم سيزول بسهولة. في تونس مثلا أراهن على المجتمع المدني التونسي وهو الشيء الذي لم يحصل في العراق، يعني الدولة العراقية لم يكن لها شخص مثل بورقيبة ولو أنه من المستبدين لكن كان له وجه ثان استطاع أن يخدم به تونس، لم يأتنا حكم عرف كيف يخدم الشعب العراقي، ولذا آثار بورقيبة وبعض الناس المتمدنين والحكماء الموجودين بتونس فضلا عن المرأة التي لعبت ومازالت تلعب دورا كبيرا في طبيعة شراسة وقوفها مع حرية المجتمع بالاضافة الى اتحاد الشغل والناس الذين يخافون على بلدهم. أعتقد أنّ كل ذلك يشكل صمام أمان أمام كل محاولات التدخل والزعزعة. ونحن نراهن على الطابع المدني الموجود في تونس لكي يصمد ولا يقع في الحفرة، حفرتنا نحن، حفرة العراقيين..
تتحدثون عن العراق، بلد النفط والرافدين!!
تصوّروا نحن أغنى بلد نفطي ولكن ثلاثة أرباع الشعب العراقي يعيش تحت خط الفقر، تحت الصفر حتى أن هناك أناسا بمحافظات العراق، بقرى بالحلة والنجف وكربلاء والناصرية يشربون الماء الوسخ! لم يعد هناك ماء ونحن بلاد الرافدين دجلة والفرات. أناس يسكنون في العراء تحت الصفيح.. الى أين يذهب النفط؟ والى أين تذهب المليارات من الدولارات؟ هناك لصوص جدد أمريكيون وأوروبيون وعراقيون مرتهنون يتفنون في بيع الثمار العراقية في أسواق قذرة والعراقيون الذين هم أصحاب البلد يعيشون حالة جوع متفردة.. هذه مصيبة كبيرة.. تصوروا أنّ للعراق من المدخرات النفطية ما يعادل كل مدخرات الوطن العربي.
سئمتم السياسة والخراب وقلتم إنّ حزبكم هو المسرح، فلماذا هذا الخيار؟
بعد فقدان ثقتي في إمكانية وجود أحزاب حقيقية ديمقراطية داخل المجتمع العربي وبسبب السلطة العربية التي هي عبارة عن سلطة مكونة من وحوش كاسرة وأناس متخلفين وجهلة وأميين، من المستحيل أن يقدروا على تأسيس فكرة اسمها «الآخر»، كيف تعيش مع الآخر، كيف تسمح للآخر بأن يبعث حزبا ديمقراطيا حقيقيا لكي يقوم بدوره... إنّ هذا شيء مستحيل.. ولهذا فكرت أنّ المنصة-الركح هي البيت وهو الحزب والملاذ وهو مكان الخلاص، هو باختصار الجنة هو جنتي.. وقد كتبت كتابا صدر بدار الاداب اسمه «المسرح جنتي» أقول فيه إن المسرح هو الجمهورية الفريدة، الجمهورية الجميلة الرائعة، السحر، التي تمكنني من أن أقول فيها كل أفكاري.. أحيانا لا يكون عندك وطن، لا يكون عندك بيت حياة فيصبح المسرح حياتك، وهذه هي الحياة الارقى والاجمل، إنك تصنع أناسا وتحاور أناسا آخرين، تستدعي هاملت، تشيخوف، بيكيت، العالم كله يمكن أن تستدعيه على منصة المسرح..
لكن لماذا تظلّ الطبقة السياسية عمياء إزاء كل من يمكن ان يهديه الفن والمسرح من حياة ومن فوائد؟
هناك مع الأسف عمى معرفي وثقافي وجمالي، السياسيون والمستثمرون والبنوك لهم قدرات غريزية بالدرجة الاولى ويشتغلون على فكرة «وحشية الغرائز» بما فيها المال واللصوصية. الثقافة الحقيقية بالنسبة لهم هي بعبع كبير جدا.. فالمثقفون شُغلهم التنوير وطرح الاسئلة الجوهرية في المجتمع، بمعنى اعادة اعطاء الناس دفقا من التنوير ومن امكانية السؤال والمساءلة.. لماذا هذا كذا؟ ولماذا هذا كذا؟ وبالنسبة للسياسيين هذه طامة كبرى، فهم يريدون أن يكون المجتمع مشغولا بالقشور التافهة بمبتكرات تكنولوجية صغيرة وبالركض وراء ظلال الاشياء، ولا الاشياء نفسها، هم يحجبون الحقيقة الكبرى التي هي المعرفة، ولهذا لا يمولونها ولا يعطونها ولا يساندونها.. عندي في بيروت مسرح اسمه «مسرح بابل» بعثته منذ سنة 2006 وصدقيني نحن نقاتل قتالا شرسا ماله مثيل فقط من أجل دفع الايجار السنوي.. لا دولة تعطيك ولا مؤسسات ولا ولا..
والجمهور؟
نراهن فقط على الجمهور، وحتى الجمهور تغيّر وأصبح «جمهورا ايروتيكيا» يذهب وراء النكتة السياسية المبتذلة ووراء الكود الكنسي المبتذل ووراء الضحكة الخفيفة وإذا كان العرض يطرح أسئلة يرفضها قائلا «أنا مريض .. أنا تعبان».. أحنا صرنا مخلوقات «دون كيشوتية» حالمة وحياتنا صارت مثل حياة القساوسة الذين عليهم يوميا ان يذهبوا الى كنيستهم ويجلسوا لأداء فرائضهم. البعض يطلب مني «النزول » الى مستوى الناس، وإذا تخليت عن السؤال المعرفي والفلسفي الذي أحمله من زمان سأتحول الى شخص ثان مختلف عن جواد الأسدي.
حاورته: شيراز بن مراد
تصوير كريم عمري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق