الخميس، 20 سبتمبر 2012

المخرج محمود بن محمود: لــن أنسـى يــوم قــال لـي فاضـل الجعايبي: «سيسيل الدم يا محمود»

أقيش فيلم الأستاذ
لفيلم «الأستاذ» الذي يعرض حاليا بقاعات العاصمة قصة غريبة روى لنا المخرج محمود بن محمود شيئا من أطوارها.. فهذا الشريط الذي صوّر خلال الأيام الأولى من الثورة التونسية، عرف عدّة عراقيل منها ما هو مالي وماهو تقني لكن مثابرة مخرجه محمود بن محمود وشجاعة منتجاه فاضل الجعايبي والحبيب بلهادي أوصلاه إلى برّ الأمان..فرسى في قاعاتنا لينقل بالخصوص "لحظة الكرامة" التي خير فيها البطل الانتصار للحق و للحرية و للمكلومين من أبناء وطنه متخليا عن إغراءات السلطة الزائفة وعن خفاياها المقيتة..
في الحوار الذي بين أيديكم، نقل لنا المخرج أيضا انطباعاته وآماله وإيمانه بضرورة أن يعمل الجميع «شيوعي أو خوانجي» كما جاء على لسانه من أجل الارتقاء بهذا الوطن.. فمطالعة طيبة...

 اخترتم أن يكون العرض الأوّل لفيلم «الأستاذ» في الرديف، لماذا؟
ـ لقد عاهدنا أنفسنا أن نعرض الفيلم لأوّل مرة في الرديف وذلك كردّ جميل لمن فتحوا الينا أيديهم عندما قمنا بالتصوير هناك، فشركة فسفاط قفصة فتحت لنا سراديب المناجم التي توقف استغلالها منذ 2007، وذلك حتى نتمكّن من تصوير بعض المشاهد فيها كما لو كنّا في سنة 1976.. وجدنا أيضا أثناء التصوير مساندة الحركة النّقابية وبالخصوص من قبل المناضل عدنان الحاجي الذي كان وقتها تحت المراقبة الأمنية.. كما لا ننسى انّ مصير تونس عندما كانت تحت الاستعمار تقرّر أيضا من تلك الرّبوع..
ولعرض شريط «الأستاذ» في الرديف بعد رمزي بالأساس اذ انّني حرصت على احياء الرّابط الاجتماعي الذي عمل النظام السّابق على تحطيمه والذي تسعى الثورة الى دعمه.. فالروابط الاجتماعية بين العاصمة وداخل الجمهوريّة لا يمكن أن تقتصر على الإعانات المادية بل يجب أن تكون لها أبعاد أخرى ومنها الثّقافيّة بطبيعة الحال..


وماذا لاحظتم في الرديف؟
ـ لاحظت غيابا تاما للدولة ولأعوان الأمن وللمسؤولين، فلم يحضر العرض ايّ مسؤول جهوي ما عدا النقابي عدنا الحاجي الذي يبدو انّ البعض لامه قائلا له:«في بلاصة الخدمة، جيبتلنا فيلم!»، لاحظت ايضا التهميش والمعاناة الاجتماعيّة.. وأعترف انّ البلاد تمثّل اليوم حضيرة واسعة علينا ان نشمّر فيها السّواعد في مختلف المجالات ثقافية أو اقتصاديّة كانت وذلك بغضّ النظر عن الانتماء الحزبي أو الايديولوجي، فلا يهمّ ان كنت «شيوعي» أو «خوانجي» لتساهم في الارتقاء بهذا البلد..


تفاجأ المشاهدون بقصة الحب التي جمعت البطل خليل الخلصاوي الأستاذ الجامعي ورئيس رابطة حقوق الانسان بطالبته خاصّة انّ الفيلم محسوب على النّوع السياسي.. فما هو تفسير هذا الخيار؟
ـ كان عليّ أن أدخل على السيناريو «عاملا مربكا» تمثل في قصة الحب التي عاشها البطل استاذ القانون الدستوري المقرب من السلطة مع طالبته وذلك بهدف إعطاء القصّة الشّحنة الدرامية الملائمة، وأريد في هذا الصّدد أن أؤكّد انّ الحلقة المفقودة في السينما التونسية هي السيناريو فهو القلب النابض والعمود الفقري لأي عمل فنّي سواء كان مسرحيّا أو سينمائيّا أو قصصيّا، لكنّنا مع الأسف لا نعيره الأهمّية التي يستحقّها..
صحيح ان للسينما التونسيّة عدّة مشاكل ومنها شحّ التمويلات وأزمة القاعات ومشكلة القرصنة، لكن جودة السيناريو تبقى مشكلة عويصة وخللا تواجهه عدة أفلام..


تباطأت وزارة الثقافة في مدّكم رخصة لتصوير «الأستاذ»، فهل كان ذلك بسبب ما تضمنه الفيلم من كشف للرشوة ولتعنيف المعارضين ولتوظيف القضاء وتضييق على الإعلام؟
ـ للأمانة لا، وذلك رغم أنّي كتبت السيناريو سنة 2007 وطلبت الدعم من وزارة الثقافة سنة 2008، لقد تعطل الفيلم لأسباب مادية بحتة.. وأعترف أيضا انّي فضّلت ان يكون الإطار الزماني للفيلم تحت حكم بورقيبة ورفضت ان أدخل في مواجهة مباشرة مع نظام بن علي لأنّه كان سيرفض الفيلم حتما.. فالشريط فضح بلغة مباشرة كما ذكرتم في السؤال توظيف القضاء، التعذيب، الاعتداءات، مراقبة الصّحافة وكذلك الفساد والرشوة..
ومن ناحية أخرى، رغبت في تسليط الضوء على سنة 76 التي اعتبرها سنة فارقة ومحطة هامة في تاريخ تونس: ففيها بعثت الرابطة التونسية للدّفاع عن حقوق الانسان كما شهدت ميلاد حزب الاشتراكيين الديمقراطيين المعارض وظهور صحيفة الرأي.. وتصادم خلالها اتحاد الشغل مع الحكومة، ولن أبالغ ان قلت أنّ سنة 1976 تستحق وحدها 10 كتب و10 أفلام و10 مسرحيات.


لماذا تأخّر انطلاق التصويرإذن؟
ـ ما حدث لفيلم «الأستاذ» غريب جدا، فمن ألطاف الله انّ لجنة الدّعم لم تجتمع سنة 2008 عندما كان بن عاشور وزيرا للثقافة خاصة انّ هذا الأخير رفض دعم فيلم «البايات» ولولا دعم وكالة الاتصال الخارجي لما كنت أنجزته.. وفي سنة 2009 عيّن عبد الرؤوف الباسطي وزيرا للثّقافة، حينها حظي الشريط بالموافقة دون اي مساومة تذكر وذلك بعد ان تململت لجنة الدّعم بين من ساندوا الفيلم وبين من رفضوه.. وأؤكّد هنا على الدور الإيجابي الذي لعبه الوزير الباسطي والذي لولا موقفه الشجاع لما رأى الفيلم النّور..


  حظيتم بموافقة الوزير, لكن العقبات لم تنته...
ـ في شهر جويلية 2010، نشر السينمائي علي العبيدي مقالا على أعمدة جريدة الشعب يقول فيه انّ المنتجين «سرّاق» وانّ وزارة الثقافة تمنح الدعم لأفلام لا تنجز وانّ لا أحد يطبق القانون (ينصّ الفصل الخاص بدعم الأفلام على ان تقدّم الدولة 35 ٪ من ميزانية الفيلم ويتكفّل المنتج بجلب 65 ٪ من باقي الميزانية)، وهو في نظري قانون غير منطقي وغير واقعي فنادرا ما تتوفّر كل التمويلات قبل انطلاق الفيلم.. وتسبّب المقال المذكور في تعطيل الشريط حيث كان عليّ ان أوفّر التمويل التكميلي اي 65 ٪ من كلفته الإجمالية.. ولازمت الوزارة خلال تلك الفترة الصمت، فخشينا ان تكون الرّقابة وراء هذا التجاهل، فما كان منّا الاّ ان نظمنا ندوة صحفية لاقت صدى واسعا وعبرنا فيها عن مخاوفنا.


  وكيف تدبّرتم باقي التمويل؟
ـ عدت الى بلجيكا بعد أن وصلنا الى طريق مغلقة، غير اني تدبرت امري ووجدت التمويل التكميلي وأعلمت الوزارة بالموضوع، فاجتمع الوزير الباسطي بعدد من السينمائيين لكي يعلمهم انّ محمود بن محمود جلب التمويل التكميلي ـ اي طبق القانون ـ وانه سيعطيني رخصة التصوير في اليوم نفسه.. غير انّ العراقيل لم تتوقف عند هذا الحد، فأغلبية الممثّلين والطاقم التقني الذين كنت سأشتغل معهم كانوا بصدد تصوير فيلم «الذهب الأسود» في الجنوب التونسي مع المخرج الفرنسي جون جاك آنو.. وكان عليّ ان انتظر نهاية عملهم (كانت مبرمجة ليوم 15 جانفي 2011)، غير انّ احساسي كان يقول العكس وطلبت منّي زوجتي ان أجازف وانطلق التصوير رغم ما ذكرته من عراقيل..


تواصل تصوير فيلم «الأستاذ» مع الايام الأولى للثورة، فكيف عشتم ذلك؟
ـ انطلق التصوير يوم 8 نوفمبر واستمر الى غاية 22 ديسمبر 2010 وقد كانت البلاد تعيش الأيام الأولى من الثورة التونسية وبدأ الاحتقان والغليان يسودان خاصة في الجنوب، واذكر ان فاضل الجعايبي قال لي آنذاك:«الدم سيسيل يا محمود».. والحمد لله أنّي صوّرت الفيلم قبل قيام الثورة والاّ لكان الفيلم يفقد معناه..


ما هو احساسك ازاء ما يحصل اليوم في البلاد من محاكمات للفنّانين ومن محاولات للمسّ من حرية التعبير؟
ـ رغم إقامتي في بلجيكا، فانّه لا يمكن ان أبقى بمعزل عمّا يحدث في البلاد، هناك معطى أساسي لا يمكن أن نتغافل عنه وهو أنّنا أصبحنا نتموقع بالنسبة للمعطى الدّيني.. فبينما كان بن علي يحكم حسب مقولة «فرق تسد»، كسبنا اليوم هوية جديدة ـ أتمنّى ان لا تكون قاتلة ـ تقوم على ما هو حلال وما هو حرام.. غير انّ أملي هو ان يجتمع كل التونسيين حول قيم الحرّية والعمل وحول الاسلام النيّر الذي لا يأتي من أفغانستان ولا يعترف بالظلامية..


لكن من عليه أن يبادر بذلك؟
ـ دون شكّ، الحل لن يأتي لا من قصر قرطاج ولا من المجلس التأسيسي بل من خلال وقفة مجتمعية يساهم فيها الكل، فالنضال من أجل الحرّيات وغيرها من القضايا لا يجب أن يقتصر عل النخبة بل يجب أن يشمل كل المواطنين.. خلاصة القول انّ الثورة لا يمكن ان تقاس بالتغيير السياسي بل بانعكاساتها على أرض الواقع وبقدرتها على تحقيق الكرامة لكل التونسيين..


حاورته: شيراز بن مراد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق