لعود الفنان العراقي نصير شمة قدرة تكاد تكون سحرية على إزالة شيء من الظلمات التي تلّفنا وعلی بث أشعة الأمل والتسامح.. على دندنات عوده تتماوج النغمات تموّج الدانتيلا الرهيفة فتعزف الحياة بجروحها وبفرحها، تعزف الأنا والآخر الذي لا يرتفع بينهما أيّ جدار أو عداوة.. تخال وأنت تستمع لمعزوفة «رحيل القمر» مثلا كأنك شربت اكسيرا يصالحك مع نفسك ومع العالم وناسه، لما فيها من عذوبة تدعو الى السلام والمحبة.. التقينا نصير شمة بمدينة الحمامات حيث كان يشارك في ملتقى حول الموسيقى والسينما، فجمعنا به هذا الحوار الذي حدّثنا فيه عن رؤيته للثورات العربية قائلا إنّ «الغد» يمكن أن يحتضن تطلعاتنا وأحلامنا وأنّ أكبر خيبة يمكن أن نعيشها اليوم هي أن تصبح الشعوب تترحم على أنظمة صدام وبن علي ومبارك والقذافي..
وقد شدّنا نصير شمة في اللقاء الذي جمعنا به بالروحانيات التي تفيض من تفكيره، من ذلك اعتباره أن هناك مشيئة و«يدا إلهية» وراء ما يحدث في العالم العربي من تغييرات معترفا في الآن نفسه بأنّ هناك ضريبة سندفعها قبل أن تندمل جراحنا..
لو بدأنا من الجرح الذي خلفته الثورات العربية، كيف يعيشه الفنان نصير شمة وهو الذي عزف الجرح العربي منذ أكثر من عقدين؟
يبدو لي أن الطبخة الديمقراطية غير جاهزة ومازال طعمها لم يستو بعد فالديمقراطية لا يمكن لها ان تُركّب، هي ليست قطعة ديكور داخلي لمنزل، بل يجب أن تنبع من الداخل وفق سياقات المجتمع الذي تظهر فيه سواء كانت دينية أو اقتصادية أو سياسية وذلك إلى أن تصير من التقاليد.. ولقد مثّل الربيع العربي فرصة لكي نبدأ في هذا المسار.. كانت لنا أنظمة فيها كثير من الفساد، فيها عائلات تحكم، فيها رشوة وصلت الى مستويات فظيعة، فيها خدمة للمصالح الضيقة على حساب الشعوب، وهذا كله تخلصنا منه وهو ما يتطلب منّا اعادة ترتيب البيت من جديد .. فعندما تفقد أسرة أحد أفرادها، فإنها تفقد بذلك وضعها الطبيعي، فما بالك بشعوب تفقد الالاف ومئات الالاف من أبنائها؟ الأكيد أنّ هناك ثمن واضح سندفعه حتى تندمل الجراح.. المزاج العام مفروض عليه أن يدخل في سياق التجربة الحقيقية لتبادل السلطة الديمقراطية التي تؤسس لمصلحة المجتمعات وتعطي ضمانات للفرد.. لكل شعب خصوصياته وتجربته ونحن بحاجة الى الوقت.. لكن المهم أنّنا قطعنا الخطوة الأولى..
والفن، أليس هو أيضا في حالة انكماش؟ وكيف لشعوب أن تنهض من جديد و فنّها وثقافتها موضوعان بين قوسين وحرية الابداع مهدّدة فيها؟
هناك شكلان من التعبير الفني: شكل تعبوي يواكب الاحداث وهو ضروري، وشكل تعبيري ينتظر ان تزول الصدمة لكي يعيد تنظيم نفسه خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار هشاشة الفعل الثقافي.. الصدمة التي حدثت في مجتمعاتنا العربية بدءا من تونس وصولا الى مصر، الى سوريا، الى اليمن، الى ليبيا شكلت رجّة في كافة دول الربيع العربي وخلقت حالة ارباك كبيرة وفي خضّم كل هذا انكمش الفن على نفسه.. وفي نظري فإن الفن الحقيقي يحتاج الى وقت حتى يعبّر عن نفسه.. والاعمال الكبيرة التي دخلت التاريخ تطلبت شيئا من الوقت حتى تستقر الامور أكثر.. ومن جهة اخرى لمّا نُقحم السياسة في الدين تصير اساءة للدين وللانسان الذي يجد دائما سببا للتنازع والتّحارب بينما الدين أسمى من كل هذا.. ما نريده من كل الاحزاب والسياسيين هو أن ألاّ يتركونا نترحم على أنظمة فاشية أنظمة صدام وبن علي ومبارك والقذافي.. هم كانوا مخطئين والوضع الآن في طريقه الى أن يصبح صحيحا.
يعزف نصير شمة الحزن والوجيعة («أرض السواد» و«رحيل القمر») وفي الوقت نفسه الامل والحلم («ضوء الروح»، «اشراق»)، فمن أين يأتي ضوء الروح هذا وهل له قدرة على اجلاء السواد من على الوجوه والنفوس؟
الامل موجود وكذلك الالم موجود، فهما صنوان متلازمان يسيران بالتوازي ونحن محكومون بهما الاثنين في الوقت ذاته… يقول ونّوس نحن محكومون بالامل وأنا أقول نحن محكوم علينا بالالم، لأننا لم نعرف منذ 1000 سنة من تاريخ العرب فترة خالية من التدمير ومن الاقصاء والاحتلالات وتغيير بنيان الدول والشعوب والحضارات.. غير أني اعترف بأن الامل موجود في الجيل الصاعد وفي الشباب وأتذكر أني لما كنت أعزف بالجامعة التونسية أو بفضاء النجمة الزهراء كنت أرى شبابا يصغي إلى الموسيقى بإنتباه عجيب.. بمجرد أن أضع قدمي في المسرح يتحول الفضاء الى محراب.. الامل أراه في هذا الجيل وعندما يتوّحد وجدان الشعب في لحظات، فينتفض ويغيّر حالته.. عندما ننظر الى الغرب والى حقوق مواطنيه ندرك أنّ كل هذا لم يتحقق بطريقة اعتباطية بل جاء بعد تضحيات ونضالات ومظاهرات وقتلى.. الغد يمكن أن يحتضن تطلعاتنا بعد أن كنّا مهددين بالسجن والاعدام بسبب تهمة او وشاية.. «الان أصبح فيه بكرة و إن شاء الله أطفال بكرة يعيشوا أحسن مما فات..»
عنونت إحدى معزوفاتك «قصة حب شرقية»، فهل مازال مجال للحب الشرقي اليوم بعد أن أشهرنا في وجوه بعضنا مسدسات التفرقة والكراهية والاقصاء؟
قبل فترة ليست بعيدة، أربعة عقود تقريبا، كانت اسبانيا تسمى ارض الموت والخراب وكان فرانكو يقصف ويقتل وفعل العجب العجاب في شعبه.. والشعب بدوره تمترس وأصبحت الجثث في الشوارع، أما اليوم فقد وصلت اسبانيا إلى مستوى عال من الرقي.. الشيء نفسه بالنسبة إلى أوروبا التي أصبحت فضاء موحدا متماسكا بعد أن عرفت أكثر من 50 مليون قتيل.. طبيعة الانسان انّ له القدرة على التجاوز وعلى التطلع لما هو أفضل فهناك المصالح المشتركة وهناك مصلحة الاولاد والجيل الصاعد وكل هذا من شأنه أن يقود الى مصالحات والى حب جديد خاصة ان الانسان قادر على الصفح والاعتذار، وكل هذا ليس مستحيلا ولسنا أول الشعوب التي خاضت حروبا ولن نكون آخرها..
العراق كيف حاله وحال أهله اليوم؟
لمّا يكون الخطر موجودا يصبح الانسان واعيا اكثر بقيمة الحياة.. كنت خلال شهر سبتمبر بالعراق وقدمت بمناسبة اليوم العالمي للسلام واحدة من أجمل حفلاتي.. ونحن في الطريق كنا نتمنى ألا تنفجر السيارة.. في كل مرّة نتوقف في الطريق ندعو الاله لكي يسترنا وكل اطفال بلاد الرافدين.. كنت أردّد الشهادة في كل اشارة ضوئية نقف عندها.. لماذا الموت ولماذا القتل؟ الاحتلال غادر البلاد فلماذا نقتل بعضنا البعض؟ هناك اليوم صناديق اقتراع وانتخابات ومن يريد أن يصعد الى السلطة عليه ان ينشئ حزبا وتصبح له قاعدة قويّة ويفوز ويحكم.. أمّا أن تُفجّر وتقتل فهذا ما لا نقبله.. سيأتي يوم ويتلاشى كل هذا وتنتصر الحياة..
ماجديد نصير شمّة؟
سأقدم يوم 31 ديسمبر 2013 حفل رأس السنة بالقاهرة وتحديدا بساقية الصاوي وسأقدم لجمهور ذواق ساعتين من الفن الجميل يعبروا به الى العام الجديد وهم منتشون بالموسيقى الجميلة.. كما سأحيي يوم 15 جانفي حفلا بمهرجان دولي بالشارقة في الامارات.. وفضلا عن هذا سأشارك بفرنسا في تكريم محمد سعيد الصقار وهو أحد أهم الخطاطين العراقيين.. ولي رغبة في تقديم عرض موسيقي في تونس يلتقي فيه الاوركسترا السمفوني مع العود وأُشرك فيه موسيقيين من تونس ومن العراق..
كلمة نوّدع بها 2013؟
كل أملي أن تستقر تونس بسرعة فقد سبقت سائر دول العالم العربي بخطوة وأتمنى أن تنجح في مسارها الانتقالي وأن تؤكد للعالم قدرتها وطاقة أبنائها على تجاوز المحن.. وإذا نجحت تونس فستمنح للبقية أملا حقيقيا لمن هم مضطهدون بسبب دينهم أو قوميتهم.. يجب ان يكون شعار المرحلة القادمة «مصلحة الوطن قبل كل شيء..»
رابط معزوفة “رحيل القمر”
حاورته: شيراز بن مراد